من شأن حملات التبرع أن تعزز شعوراً بالتكافل والتضامن بين أبناء البلد الواحد، وخصوصاً في مواجهة الكوارث الطبيعية أو الحروب، لكن في لبنان يبدو أن ثقافة البلد المنكوب باتت سائدة. وقد كشف سقوط الأمطار الغزيرة في تشرين الثاني الماضي الخلل في شبكة البنية التحتية، التي أنجزها مجلس الإنماء والإعمار، والتي سدت مجاري تصريف المياه المبتذلة التي انسابت إلى الطبقة السفلية من المتحف الوطني، الذي يمثل المنخفض في المنطقة.
غرقت القطع المعروضة في الطبقة بالوحول، ودخلت مياه الأمطار المخازن، وأدت الكارثة إلى خسائر قدرت بـ 300.000 دولار أميركي، ما دفع بالمؤسسة الوطنية للتراث، بدعم من وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار إلى إطلاق صرخة استغاثة على شكل حملة «إعلانية»، أتى شكلها أقرب إلى التسول، فما حلّ بالمتحف، في رأيهم، يحيل على كارثة مستمرة، إذا لم يبادر اللبنانيون بدافع من وطنيتهم إلى التبرع لحماية متحفهم الوطني وحضارتهم الإنسانية.
«يا حيرام... عم يغرق المتحف»، يقول الإعلان، في وقت لم يخبرنا فيه أصحابه عن تلكؤ كل من وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار عن حماية حيرام ورفاقه من الغرق، وذلك عبر التأكد قبل بداية فصل الشتاء من عدم وجود أيّ خلل في شبكة تصريف المياه، والثاني عبر مقاضاة مجلس الإنماء والإعمار على الخطأ الذي اقترفه.
يفترض بالحملة الإعلانية أن تحرك «نخوة» اللبنانيين ليهبوا لحماية تراثهم. «الأخبار» استطلعت آراءهم في هذا الشأن.
«لن أدفع ليرة واحدة»، تقول باميلا (29 عاماً). تلوم الموظفة في المؤسسة الإعلامية وزارة الثقافة على غيابها، ثم تردف:« فليتفضل من يقتنص المال من جيوب المواطنين بالتبرع للمتحف»، مستغربة حملة للتبرع للمتحف الوطني، وغياب أخرى لترميم البيوت المهددة بالسقوط على رؤوس قاطنيها. أما آدم (25 عاماً، طالب ماجستير في العلوم السياسية)، فيرى نفسه معنياً بالأمر، ويستغرب اللعب على عواطف المواطن، فيما يدفع الأخير ضرائب من شأنها أن تذهب إلى الخدمات العامة، ومنها المتحف الذي تقع عملية صيانته والاهتمام به على عاتق الدولة.
أما مروان (25 عاماً، موظف في مؤسسة سياحية)، فيؤكد أنّه لن يقصر في دعم المتحف بما تسمح به قدرته المالية، انطلاقاً من إيمانه بأنّ المجتمع يجب أن يحافظ على تاريخه الوطني قبل الدولة، لكنّ مروان لم يسأل عن مصير المال الذي سيتبرع به، على عكس وسام (22 عاماً، طالب جامعي) الذي يفضل «التبرع لتجمع مدني ينشأ بمبادرة من أناس مهتمين بالحفاظ على المتحف. سيتبرع وسام بصفته شخصاً مهتماً بالآثار، لكنه يشترط على الجهة التي ستتولّى أعمال الترميم «أن تعلِمنا بكل خطوة لنكون على بينة من أعمال الترميم والصيانة. أن نعرف كيف سيرمم المتحف، وأين ومتى ينتهي الترميم. لا أن نتبرع وننتظر، وذلك منعاً لأي احتمال فساد أو سرقة».
لن يتبرع خير الدين (37 عاماً، تاجر) للمتحف، فهو لا يكفل أن يصرف المال فعلاً على أعمال الترميم، كما حدث مع الهبة القطرية للنهوض بالمكتبة الوطنية، التي تبخرت فجأة. الحال نفسها بالنسبة إلى ريان (23 عاماً، ممرضة) التي تفضل التبرع بمالها إلى المحتاجين، بدلاً من وضعه في قبضة مجموعة لا تثق بنزاهتها.
وتوافق ميريللا (31 عاماً، موظفة إدارية) على هذا المبدأ، إضافة إلى أنّ راتبها لا يكفي لآخر الشهر، ولأنها لا تثق أصلاً بـ «دولة مهترئة». ومع ذلك، تطلب الموظفة من الحملة تعريف اللبنانيين بتاريخهم قبل أن يطلب منهم دعم متحفهم الوطني. فغالبية اللبنانيين لا يعرفون، في رأيها، من هو أحيرام كما جاء في الإعلان على سبيل المثال. وتسأل: «ألم يكن أجدر لو يعرّفون الشعب بناووس ملك جبيل أحيرام، الذي يحفظ على جوانبه أقدم وأكبر كتابة فينيقية قبل أن يعلموه أنه بخطر؟».
تؤيد الأستاذة في كلية الآثار في الجامعة اللبنانية الدكتورة مهى المصري أهمية توعية الناس على أهمية التراث قبل الحفاظ عليه. في الجامعة اللبنانية مثلاً لا أحد يعلم بالحملة. وبينما تعلن المصري دعمها للحملة بصورة عامة، تطالب الدولة بالقيام بواجباتها تجاه المتحف. وتسأل وزارة الثقافة ـــــ المديرية العامة للآثار عن المخطط العام لترميم المتحف الوطني وصيانته منذ عام 1993، الذي لم يلحظ أساليب حماية المتحف من كوارث كهذه؟