أربع وعشرون صفحة أفردها قاضي التحقيق في جبل لبنان رامي عبد الله لقراره الظني في قضية «توقيف عصابة تتاجر بالمخدرات ضُبط بحوزتها 53 كلغ من مادة الكوكايين موضّبة في حقيبتي سفر»، وانتهت وفقاً لمطالعة النيابة العامة الاستئنافية بالظن بثلاثة موقوفين بجناية الاتجار بالمخدرات وترويجها، فيما منعت المحاكمة عن ثلاثة آخرين، أبرزهم نقولا ن. ورغم الضغوط السياسية التي رافقت تحقيقات القاضي، جاء القرار على قدرٍ عالٍ من الدقة.
فقبل نحو ثمانية أشهر، ضبطت الشرطة القضائية كمية ضخمة من المخدرات، وأوقفت عدداً من المشتبه فيهم، بينهم أربعة يحملون جنسيات أجنبية. الكمية المضبوطة التي يصل ثمنها إلى عدة ملايين من الدولارات أثارت بلبلة كبيرة. وأسهمت في مفاقمتها آنذاك ثُغَر التحقيق التي سمحت بتعدد الروايات في القضية. فقد بدا رجال الأمن عاجزين عن إثبات تورّط «تجار المخدرات »، فيما تحدث آخرون عن «طبخة» نسِّقت مع جهاز أمني أجنبي للإيقاع بالهولندي روبرت ك.، المشتبه في تورّطه في تجارة السلاح عالمياً.
في تلك الأثناء، انتشرت شائعة تفيد بأن قاضي التحقيق في جبل لبنان بيتر جرمانوس قبض رشوة قيمتها مليون دولار مقابل إخلاء سبيل أحد المشتبه فيهم المدعو نقولا ن. هذه الشائعة دفعت بالقاضي جرمانوس إلى التنحّي عن القضية لتأكيد نظافة كفّه، فانتقل الملف إلى القاضي عبد الله. في موازاة ذلك، بدأ الحديث عن دور اضطلع فيه مكتب مكافحة المخدرات المركزي بشخص رئيسه العقيد عادل مشموشي لجهة حياكة مكيدة للإيقاع بـ«المجرمين المفترضين». وأشارت هذه الرواية إلى أن القيّمين على مكتب المخدرات تولّوا دس 53 كيلوغراماً من الكوكايين للصق التهمة بـ«الموقوفين الأبرياء» لغايات مشبوهة. واستند ناقلو هذه الرواية في استنتاجاتهم إلى فقدان السيارة التي ضُبطت فيها المخدرات، لا بل ذهبوا إلى القول إنه لا وجود للسيارة أصلاً. لكن المنطق، بحسب أمنيين وقضاة، يضع ذلك في خانة المستحيلات، إذ من أين يمكن مكتب المخدرات أن يحضر كوكايين يتجاوز سعره عشرة ملايين دولار. ويكمل هؤلاء، لو افترض صحّة ذلك، فإن عدة كيلوغرامات كانت تكفي للتلفيقة.
انطلاقاً ممّا سبق، أظهرت حيثيات القرار الظني الذي أصدره عبد الله أن المدّعى عليه راضي ش. كان يقود سيارة رينو حمراء ضُبطت المخدرات في صندوقها في منطقة الكسليك. تأيّد ذلك باعتراف راضي نفسه، فأفاد بأنه تسلّمها من المدعو جرجي وسلّمها إلى شخص إنكليزي قبل أن يتسلّمها ويُلقى القبض عليه بتاريخ 29/7/2011، أي يوم ضبط المخدرات. وفي ما يتعلق بالمدّعى عليه الهولندي روبرت ك.، فقد تحدثت الحيثيات عن تعرّف زوجته اللبنانية ص. ق. إلى زوجها من خلال صورة عرضها المحققون لشخص أصلع يقود سيارة حمراء، وهي السيارة نفسها التي ضُبطت فيها المخدرات. كذلك تعرّف شقيق زوجة الموقوف، علي ق.، على روبرت بنسبة ستين في المئة. وبناءً على ذلك، رأى القاضي عبد الله أن ذلك يشير إلى أن المدّعى عليه روبرت ك. نقل كمية المخدرات وسلّمها إلى المدعى عليه راضي ش.
أما المدّعى عليه الإيرلندي شون ب. فقد جاءت أقواله متناقضة مع أقوال المدّعى عليه روبرت ك.، إذ أفاد الأول بأنه أمضى نهار الجمعة، وهو يوم ضبط المخدرات، برفقة الثاني في بيروت، فيما أفاد روبرت بأنه أمضى نهاره برفقة شون في الكسليك. لكن تبيّن من تحليل الاتصالات الجغرافي لرقم الهاتف الخاص بالمدّعى عليه الهولندي روبرت أنه كان في الكسليك. كذلك ضُبط في حوزته جهازا هاتف خلوي وآلة لعدّ النقود، إضافة إلى أجهزة هاتف خلوية أخرى من نوع بلاكبيري ونوكيا كانت مخبّأة في شجرة حيث جرى توقيفه. وتعرّف عناصر مكتب مكافحة المخدرات إلى شون ب. باعتباره الشخص الذي صعد برفقة المدّعى عليه راضي ش. على متن السيارة الحمراء. من هنا، رأى قاضي التحقيق أن مشاهدة المدّعى عليه شون برفقة راضي وتسليمهما سيارة الرينو إلى روبرت، يحملان على الظن في قيام شون بالاشتراك مع روبرت بتسليم المخدرات إلى المدّعى عليه راضي ش.
استناداً إلى ما سبق، قرر قاضي التحقيق رامي عبد الله اعتبار فعل المدّعى عليهم الفلسطيني راضي ش. والهولندي روبرت ك. والإيرلندي شون ب. يمثّل الجنايتين المنصوص عليهما في المادتين 125 و126 من قانون المخدرات اللتين تتراوح عقوبتهما بالسجن من خمس سنوات حتى الأشغال الشاقة المؤبدة.
أما في ما يتعلق بالمدّعى عليهم نقولا ن. وغابي ن. وإبراهيم ش. الذين مُنعت عنهم المحاكمة، فقد رأى القاضي عبد الله أنه لم يثبت شيء ضد المدّعى عليه الأبرز اللبناني نقولا ن.، إذ تبين له، بحسب الإفادة الصادرة عن مصلحة تسجيل السيارات، عدم صحة ما نُسب إلى نقولا حين اشتُبه في أن السيارتين الأوستن مارتن والرانج روفر المستخدمتين في نقل المخدرات تعودان إليه. وكذلك الأمر، فإن العودة إلى إفادات الشهود، ومن بينها إفادة العقيد عادل مشموشي، بيّنت أن المحققين لم يتمكنوا من تسجيل أرقام السيارات المشتبه فيها لأسباب خارجة عن إرادتهم، في حين ظهر أن رقم سيارة البنتلي الذي جرى تدوينه كان خاطئاً ويعود إلى سيارة مختلفة النوع. حتى إفادة الدركي الذي كان مكلفاً بعملية المراقبة، فإنها لا تصلح لبناء الشبهة عليها، إذ إن العنصر المذكور لم يتمكن من تحديد مواصفات سائق السيارة التي يُعتقد، وفقاً للتحقيقات الأولية، أنه المدعى عليه نقولا. حاله كحال شريط الفيديو المصوّر الذي تعذّر فيه تحديد هوية السائق بسبب بُعد المسافة وضعف الجودة التصويرية. أضف إلى ذلك، فإن شاهداً يعمل بائع سمك أثبت أن المدعى عليه حضر إلى مسمكته في توقيت حصول العملية، وقد تأيّد ذلك من خلال حركة الاتصالات التي بيّنت وجود اتصال بين صاحب المسمكة ونقولا، في حين لم يُبيّن التحليل وجود أي اتصال هاتفي بين نقولا والمدّعى عليهما روبرت وراضي.
غياب الأدلة القاطعة منع المحاكمة نقولا رغم أن التحقيقات الأولية كانت تتحدث عن تورّطه. أما المدعى عليهما إبراهيم ش. وغابي ن.، فقد بيّنت معطيات الملف أن الأول لم يكن في منطقة الكسليك في تاريخ ضبط المخدرات، في حين أن الثاني لم يشاهده أيّ من عناصر المراقبة في مسرح الجريمة. وقد ثبّتت ذلك إفادات أحد الشهود الذي قال إن غابي المذكور كان حاضراً في الورشة الخاصة بشقيقه نقولا.



معوّقات التحقيق

علمت «الأخبار» أن المحققين في مكتب مكافحة المخدرات المركزي واجهوا العديد من المعوقات خلال تولّيهم التحقيق في قضية الـ53 كلغ كوكايين، باعتبارها تندرج ضمن الجرائم المنظّمة. العقبة الأولى كانت مسألة داتا الاتصالات التي لم يُسمح لهم بالاطلاع عليها عندما كانت العملية جارية. أما العقبة الثانية، فتمثّلت في قصر أمد فترة الاحتجاز في مراكز التوقيف المحددة بحسب قانون أصول المحاكمات الجزائية بيومين تمدّد مرة واحدة، إذ إن هذه المدة بحسب مصدر مطّلع على التحقيقات لا تكفي للتحقيق في جرائم بهذا الحجم، لا سيما أن الموقوفين يتمتعون بدرجة عالية من الاحتراف. وهناك مسألة التنصّت على هواتف المشتبه فيهم التي يجيزها القانون، لكنّها غير مطبّقة لاعتبارات سياسية، إذ إن إجازة التنصّت، لو أتيحت، كانت، على الأقل، ساعدت في كشف مصدر الشحنة. وذكر المسؤول نفسه أن هويات أصحاب أرقام الهواتف الخارجية التي جرى التقدم بطلب لمعرفتها لم تصل حتى الآن.