لا تشبه رائحة مغدوشة رائحة جاراتها. ففي مثل هذه الأيام من كل عام، يتفتّح زهر الليمون، مضفياً على «سيّدة المنطرة» رائحة فريدة لا يجدها العابر إلا فيها. فهنا، لفحة الهواء «غير» والزهر والشجر.. والكزدورة أيضاً. هكذا، تتحول مغدوشة في مثل هذه الأيام، فتصبح محط رحال «الرومانسيين»، على حد قول حنا الحكيم، نائب رئيس الجمعية التعاونية لزهر الليمون والبوصفير وجميع منتجات مغدوشة، وخلية عمل للمزارعين المنكبين على تأمين لقمة عيش لا يمكن «إلا أن تكون مربحة». ففي تلك القرية، التي يعرّف عنها أبناؤها بعاصمة «ذهب لبنان الأبيض» (ماء الزهر)، لا يمكن أن يمر موسم الزهر مرور الكرام، إذ يُشغل أبناؤها، وغالبيتهم من المزارعين، بتأدية «وظيفتهم الموسمية» المتمثلة في قطف الزهر وبيعه وتقطيره أيضاً. هذه المهنة تتحول مع الوقت إلى «متعة» لا يشعر بها «إلا من يحترفها»، تقول جوزيت الخوري. هذه السيدة، التي بات لها من العمر سبعون عاماً قضت منها ثلاثين في صناعة ماء الزهر، تنتظر موسم الزهر بفارغ الصبر لتمارس هواية ومهنة ورثتها عن أبيها، الذي ورثها بدوره عن الجد. لا تفكّر أبداً في «اعتزال» متعتها، وتثابر عليها لسببين «أولهما أنها تراث من أصالة بلدتنا، وثانيهما أنها تمثّل مصدر دخل إضافي لعائلتي». وإن كانت هذه الجدة تنتظر الموسم لممارسة هواية بات لها من العمر الكثير، إلا أن هناك آخرين ينتظرون الربيع لتأدية وظيفة تكاد تكون هي الوحيدة أو الأولى. وأسامة عمّون، واحد من هؤلاء الذين استهواهم العمل في مجال صناعة زهر الليمون. قبل 20 عاماً، كان الرجل «دكنجي»، ومع الوقت صارت له مهنة أخرى وهي تقطير زهر الليمون. طوال تلك الفترة، تحوّل عمّون إلى «خبير» في صناعة ماء الزهر. تعلّم الكثير عن تلك الصناعة التي تمتاز بها قريته مغدوشة، التي تنتج منها ما بين 85 طناً و100 طن من الزهر سنوياً. بات قادراً على تمييز الصناعة الجيدة من الرديئة «ع الريحة». قبل الدخول في التجربة التي راكمها عبر السنين، يستهل حديثه من بداية الموسم «الذي يتحدد على أساس عامل الطقس، على أنه في العادة يبدأ في شباط». أما هذا العام، وبسبب تأخر الرياح الخمسينية، «فبدأ الموسم منذ 24 يوماً ويستمر حتى أواخر الجاري». وقد ينتهي قبل «الآخر» بقليل، فعمّون مثلاً ينهي قطاف موسمه بعد خمسة أيام، وهو في هذه اللحظات في «القطفة» الأخيرة، إذ أنهى المرحلة الأولى التي تتمثل في «قطف الزهر الفاتح ـ الشامط، وانتقلنا إلى المرحلة الثانية التي نقوم أثناءها بفرط الزهر على الآخر». يحرص الرجل على أن تكون «تفتيحة» الزهرة حوالى 15% حتى يتسنى للعاملين قطف الكمية اللازمة «التي يجب ألّا تقل عن 10 كيلوغرام في اليوم الواحد». اليوم، ينتج أسامة طنين من الزهر، من دون شريكه الذي ينتج حوالى 4 أطنان سنوياً. من هذين الطنين، يقطّر ماء الزهر ويبيع الزهر أيضاً وينتج العصائر. وقد يجني من الموسم 50% ربحاً من ماء الزهر، و25% من بيع الزهر، لكن، ثمة من يجني أكثر بحوالى الضعفين. فأحد المزارعين، الذي يرفض ذكر اسمه، يجني سنوياً «حوالى 20 مليوناً»، مقابل 5 ملايين تكاليف الموسم وأجرة العاملين والغاز، التي تبلغ 25 ألف ليرة عن «كل قطفة عشرة كيلوغرامات»، يقول. أما الربح من عصير البوصفير، فالاثنان يجنيان ربحاً مماثلاً قد يبلغ حد «300%».
تجارة مربحة بلا شك، لكنها مغسولة بالتعب. تعب يبدأ مع موسم قطف زهر الليمون، الذي يحتاج إلى قدرة جسدية تتحمل ساعات العمل اليومي، ولا ينتهي بتقطير ماء الزهر الذي يعوزه الصبر.
لكن، كل هذا التعب قد ينتهي عندما يصل المزارع إلى «الربح الصافي». فالـ 25 ألفاً التي يدفعها للعامل عن كمية 10 كيلو غرامات من الزهر، يجني منها 25 «صافي». أما كلفة قنينة ماء الزهر سعة 500 ملليتر، فقد تأتي بربح 3 آلاف ليرة تقريباً، إذا ما احتسبنا «سعر الكيلو بـ 5 آلاف، وكلفة إنتاج قنينة الزهر في الكركي 1500 ليرة، و600 ليرة سعر القنينة»، يقول عمون، على أن كيلوغرام الزهر «ينتج قنينة سعتها 500 ملليتر، وهو معيار الجودة، وكلما زادت الملليترات خفت الجودة».
ولئن كان عمون يعتمد على نفسه في الإنتاج، فإن أشخاصاً آخرين يقطفون زهر ليمونهم ويبيعونه للجمعية التعاونية لزهر الليمون، التي تشتري «إنتاج كل من يرغب»، يقول الحكيم. أما الأسعار، فتخضع «للعرض والطلب، فإذا اشترينا الكيلوغرام الواحد من المزارع بأربعة آلاف، نضيف إليه 500 ليرة». هذه الـ500 «هي أجرة العمال». ولا تكتفي الجمعية بشراء زهر الليمون وبيعه، فعندما يتكدس الزهر «نعمل على تقطيره ونبيعه بالمفرق والجملة وحسب الطلبيات»، يختم.