من يمرّ من أمامه وينظر اليه، قد يتساءل لماذا بقي هذا الصرح هنا بعدما طاولته سنين الحرب الطويلة، وقد يتساءل اللبنانيون لماذا لا يأتون إلى زيارة المتحف مراراً وتكراراً. أسئلة تخبئ أجوبتها قصة فريدة من نوعها. فهذا الصرح الذي يحفظ تاريخ البلد باتت قصته تشبه قصة لبنان. فدوره في هذا الوطن، اكثر من دور شاهد على التاريخ القديم ليصبح جزءاً من التاريخ المعاصر.
قصته لا تشبه قصة أيّ متحف آخر في العالم، فالمتحف تأسس قبل استقلال لبنان. في 27 ايار 1942، افتتح رئيس الجمهورية اميل نقاش المتحف الوطني في بيروت قبل أن ينال لبنان استقلاله. وعلى عكس ما يعتقده البعض، فالفرنسيون لم ينشئوه، بل عملت على ذلك مجموعة من المثقفين اللبنانيين، اجتمعوا ونظموا التمويل واشتروا الأرض خلف ميدان سباق الخيل، وعملوا على تشييد البناء، الذي جمع القطع الأثرية المكتشفة في أرجاء الوطن. وبدأ البناء سنة 1930، وأتى التصميم الهندسي مطابقاً لموضة تلك الفترة، أي بنفحة فرعونية بارزة في الأعمدة على مدخل المتحف.
حينما افتتح المتحف، كانت قاعاته مليئة بالقطع الأثرية، بعض منها كان قد جمعها الضابط الفرنسي ريمون ويل سنة 1919، والبعض الآخر كان قد اكتشف خلال عمليات التنقيب في المواقع الأثرية الكبيرة، مثل جبيل وصيدا... فكانت هناك الأواني الفخارية والنقوش والتماثيل والنواويس والفسيفساء والكنوز… التي كان عددها يتزايد شهرياً.



في فترة العصر الذهبي للتنقيب الأثري في لبنان (بين 1960ـــ 1975) كانت التحف تتوافد الى المتحف على نحو شبه يومي، فلم تعد تتّسع لها المخازن الممتلئة، لكن العز لم يدم طويلاً. فحينما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، وبات جلياً أن موقع المتحف في وسط بيروت، وعلى إحدى طرقاتها الأساسية قد يضع الموجودات في حال الخطر، أقفلت أبوابه. وفي فترات وقف إطلاق النار، كان مدير المتحف الأمير موريس شهاب وزوجته يدخلان من الباب الخلفي، ليعملا سراً على إخفاء القطع الأثرية الصغيرة المعرّضة للنهب والسرقة، ويضعاها في المستودعات التي أوصدت أبوابها بجدران إسمنتية، فمن لم يكن يعرف المتحف، لم يدرك أن خلف الجدران مخازن تحوي تاريخ البلد.
أما القطع الكبيرة، فجرت حمايتها بصب طبقة من الإسمنت المسلح حول قالب خشبي كان يغطيها. ولمّا انقسمت بيروت واحتدمت المعارك تحوّل الصرح الذي وقف شاهداً سنة 1942 على ثقافة عالية وشعور عالٍ بالمواطنية، الى منطقة حرب وصراع. سكنته الميليشيات. افترشت الأرض قرب التماثيل الرخامية... أشعلت النار لتتدفأ داخل جدرانه، رسمت على تماثيله الرخامية... واصطفّ الناس أمام أبوابه، «فمعبر المتحف» خط تماس بين شطري بيروت. في ساحته وقف باعة الخضار ينادون على البندورة والخيار!
وبقي المتحف شاهداً على كل ما يحدث، فهو الذي يخبئ التاريخ بين جدرانه، كان ربما مدركاً أن هذه الأزمة لن تدوم. فانتهت الحرب، وانسحب الجميع، وتركوا المتحف وراءهم منهكاً، مسروقاً، مشوهاً... لكن صامداً في مكانه.
قصة المتحف تشبه قصة لبنان، فالأول مبني على نبع مياه جوفية تهدد محتوياته كل دقيقة بخطر الغرق، والثاني يرتكز على فالق زلزال يهدد وجوده كل يوم. المياه الجوفية غمرت مخازن المتحف أيام الحرب وأتلفت آلاف القطع... لكن إرادة اللبنانيين كانت بأن يعود المتحف وينهض. تطلّب تصحيح الخراب والدمار أكثر من عشر سنوات، ومن جديد أتت المبادرة لبنانية أولاً، فأنشئت «المؤسسة الوطنية للتراث»، التي رعت تأمين المبالغ الضرورية للترميم، وتأكدت من أن الحياة والفخر سيعودان الى هذا المبنى. اجتهد المهندسون لإبراز قطعه بحسب أحدث التقنيات في عالم المتاحف، فأتت «ولادة» المتحف الثانية لتصنفه من الأجمل في الشرق الأوسط.



قصة متحف بيروت لا تشبه قصة أي متحف آخر في العالم. لا يجوز التشبيه في المصائب، لكن القواسم المشتركة بين متاحف بيروت وكابول وبغداد كثيرة، غير أن متحف بيروت كان أرضاً للموت، كان اسمه يزرع الرعب في النفوس، وبات اسمه شعاراً للوحدة الوطنية، كان أرضاً تسكنها الميليشيات، وباتت قاعاته تجمع اللبنانيين معاً أولاً ومع تاريخهم ثانياً.
قصة متحف بيروت تدرّس في الجامعات ومراكز الأبحاث، فهي ترمز الى نضال شعب للمحافظة على تاريخه. إنها قصة صمود ورفض لواقع الحرب والموت. والصمود أتى من العناد لإبقاء المتحف في مكانه، ورفض ما فرض عليه في الحرب. وهذا ما حوله الى إحدى الثوابت الكبيرة في هوية الوطن. فمتحف بيروت لم يُعد بناؤه على نحو لا يعرفه أهله، ولم ينقل الى بقعة ثانية فأتت هويته مغايرة، بل جرى ترميمه وبقيت شواهد الحرب واضحة. لذا، قد لا يدخله الكثيرون ممن يريدون النسيان، لكن حينما يتصالحون مع الماضي يأتون اليه، فالمتحف متصالح مع ماضيه ولا ينسى تاريخه، بل يعرضه!



عيد المتحف الوطني السبعون

تحت عنوان «ليكتشف الزائرون وخاصة العائلات المتحف كما لم يروه من قبل»، سيكون نهار الأحد طويلاً في المتحف. في الساعة العاشرة، وبرعاية وزير الثقافة المهندس غابي ليون، يفتتح البرنامج مع الحكواتية سارا قصير، التي ستخبر عن تاريخ المتحف، وسيشاركها «أصدقاء الدمى» العرض ليبرزوا على نحو فني وحديث أهمية القطع المعروضة في المتحف وتاريخها. ولكي يكون للأطفال دور، ستكون الدمى على الموعد، وتشرح بأسلوب مبسط بعضاً من المعروضات. أما الآلات الموسيقية المنحوتة في القطع، فسيأتي مؤرخ الموسيقى ناصر مخول ليعيدها الى الحياة، ويعزف على نسخ عنها، فيستمع الزائر الى صوت الآلات الفينيقية والرومانية واليونانية. وهناك ورش عمل للأطفال طيلة النهار، ومرشدون سياحيون لمساعدة الزوار خلال النهار.

الدخول مجاني والعروض تعاد طيلة النهار.