ليل الأحد 20 أيار، شُغلت شاشات التلفزة والإعلام بنقل خبر الاشتباكات المسلّحة في منطقة الطريق الجديدة. بزغ الفجر على خبر إحراق مكتب «حزب التيار العربي» وخروج رئيسه شاكر البرجاوي من المنطقة. لكن بين كرّ «أبو بكر» و«تيار المستقبل» وفرّهما، على الشاشات، وبين النيران المشتعلة في الخارج، كان الشابان محمد يوسف أبو طه ومحمد علي شراب ممدّدين على الأرض ينزفان.
بقي أبو طه، مرافق «أبو بكر»، وشراب، ينزفان «بهدوء» من الحادية عشرة ليلاً حتى الثانية صباحاً على أرض موقف سيارات مكتب «حزب التيار العربي»، من دون أن تدخل أيّ سيارة إسعاف إلى المنطقة لنقل الجرحى. وعندما اجتاح ذاك «الرانج» الأسود الطريق الجديدة ليحمل معه جرحى الحزب، كان الأمر قد انقضى. زهقت روح شراب، بينما أجهزت على أبو طه تلك الطلقات الناريّة التي صوّبت نحو السيارة.
الضحيّتان، كما ضحايا هذه الإشكالات، تبقيان الحلقة الأضعف في القصة، بما أنّهما من ينساهما الجميع، في أفضل الأحوال، بعد برهة، لتبقى قصّة «أبو بكر» و«تيار المستقبل» فوق السطوح. لكن إذا كان شاكر البرجاوي قد ترك خلفه في حادثة الطريق الجديدة مكتباً محروقاً وقضية غير منتهية مع «تيار المستقبل»، فإنّ محمد أبو طه ترك خلفه زوجة حاملاً بشهرها الخامس وطفلاً في التاسعة من عمره، كذلك فإنّ محمد شراب ترك أيضاً زوجة وطفلين، أحدهما في الرابعة من عمره والثاني لم يتخطّ عمره السنتين.
مات أبو طه ومحمد علي شراب فداءً لأيّة قضيّة؟ لأيّ زعيم؟ عائلة الشابين تجدان صعوبة بالغة في الحديث مع الإعلام. لا يريدان أن يصبح الشابان حديث الصحف ويحوّر الإعلام قصّتيهما؛ إذ إنّ الشابّين لم يدفعهما إلى العمل مع «أبو بكر» سوى الحاجة والرغبة بالعيش الكريم وإعالة عائلتيهما. والدة أبو طه تقول إنّ ابنها «ذهب ضحيّة الفقر والحاجة. لم يمت لأجل أحد ولا من أجل أيّ قضيّة سياسية، بل هو لم يكن حتى مسلّحاً حينها. ولو كان مسلّحاً لما استشهد في تلك الليلة. هو فقط كان بحاجة إلى عمل إضافي لإعالة عائلته ودفع إيجار بيته». ابنها المولود عام 1980، معروف بـ«قبضاي الحيّ». صورته على تخوم الحيّ، خلف المدينة الرياضيّة، تصرّ على إبرازه كما عرفه الحيّ: «القبضاي». محمد أبو طه يضع نظاراته الشمسيّة ويملأ إطار الصورة، بينما ترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة. الإكثار من الابتسام كان سيجعله أكثر ألفة. لكن أبو طه في الصورة يبدو أليفاً وبعيداً في الوقت ذاته. فهو ذلك الشاب الذي لو امتدت يد إلى جيبه لمعرفة هويّته، وهو ملقى على الأرض، لما وجدت هويّة؛ إذ إنّ أبو طه من «مكتومي القيد». وضعه الاجتماعي لم يكن يسمح له بأن يمارس أيّ عمل يريده، فكان ابن العائلة الفقيرة المكوّنة من تسعة أطفال، يعمل في طلي الجدران ويعمل في دوام آخر مرافقاً لشاكر البرجاوي. زوجة أبو طه، حكمت حلاوي، كانت تعاني الأمرّين كلّما حان موعد تسجيل ابنها في المدرسة، بما أنّه ورث عن أبيه «غياب الهويّة» وعذاب العيش من دونها في بلد كلبنان، وورقة المختار «لمكتومي القيد» التي يصبح الحصول عليها أصعب فأصعب. مع وفاة الوالد، أصبحت حلاوي الآن أكثر قلقاً على ابنها الذي سيولد في غضون أربعة أشهر.
تقول حكمت: «فليجروا فحص الحمض النووي لولديّ وليعطوهما بعدها هويّة ويريحونا من هذا العذاب». تواظب حلاوي على متابعة الأخبار المتعلّقة بإعطاء المرأة الجنسية اللبنانية لأولادها، تطمئنها النساء بأن تتفاءل خيراً. لكن بينما يعيش المواطنون واقعهم المرير على الأرض، تبقى الدولة بعيدة عن هذه المعاناة، وتحسب على أوراقها العديد الطائفي. تتساءل اليوم حلاوي عمّن سيساعدها في تربية طفلين من دون هويّة.
عائلة محمد شراب تبدو أكثر تحفّظاً في الحديث مع الإعلام. يأتي صوت أخته الحزين عبر الهاتف لتقول إنّ أخاها «ما مات مع شاكر البرجاوي». أخوها لم ينتحر مع زعيم حزب أو سياسي. بل كلّ ما تعرفه أنّ أخاها قال في تلك الليلة إنّه سيحضر لتناول العشاء مع العائلة ولم يف بوعده. أخوها كان سيصبح في سن التاسعة والعشرين في شهر آب، لكن هناك ما اعترض عمره. شراب كان يعمل في توزيع مياه الشفة على منازل أهالي عرمون. تكرّر شقيقته، ما يبدو أنّه يشغل عقلها: «أخي ترعرع يتيماً وترك ولديه باكراً لليتم».
تبكي العائلتان ابنيهما وتتساءلان، لمَ لم ينقذهما الجيش؟ لمَ لم تدخل سيارة إسعاف إلى المنطقة؟ لم تُركا ينزفان ثلاث ساعات أرضاً؟ وإن كانت الأجوبة عن هذه الأسئلة اليوم ما عادت تفيد العائلتين، إلا أنّ السؤال الأصعب في خاطرهما، هو من سيعول عائلتيهما؟ كيف سيكبر أولادهما بعيداً عن السياسة والحاجة إلى زعمائها للعيش؟ يقول شاكر البرجاوي إنّه بعد إصابة مركز الحزب بـ25 قذيفة آر. بي. جي واحتراقه، هرب أبو طه وشراب من المبنى المحترق إلى موقف السيارات حيث أصيبا بالرصاص، ويضيف أنّ حزبه مجبر اليوم، بالوقوف إلى جانب العائلتين والاهتمام بهما.

التهديدات مستمرة!

بعد أسبوع على رحيلهما، نظّم حزب التيار العربي، أمس، حفل تأبين لهما في مركز توفيق طبّارة في بيروت. ويقول رئيس حزب التيار العربي، شاكر البرجاوي، إنّ تهديدات طاولت الحزب لمنعه من إقامة حفل التأبين؛ إذ «اتصل أفراد من تيار المستقبل بآل طبارة وحذّروهم من إقامة حفل تأبين الضحيّتين في المركز».