لم تستطع البعثات الدولية المتخصصة في تحديد الضرر اللاحق بالمواقع الأثرية (كمنظمة الدروع الزرقاء أو بعثات منظمة اليونسكو) الدخول إلى سوريا لإعطاء تقرير مفصل عن وضع الآثار على الأرض. وما يصل من هناك يقتصر على معلومات تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفايسبوك والوكالة السورية للأنباء ونداءات المنظمات الدولية. وهي المعلومات نفسها التي عملت الباحثة إيرما كانليف من جامعة دورهام البريطانية على تجميعها، لتنشرها في وقت لاحق منظمة «Global Heritage Fund» (غلوبال إريتاج فاند) كأول تقرير مفصل عن وضع الآثار في سوريا.
يحمل التقرير عنوان «ضرر في الروح: تراث سوريا الثقافي في الصراع»، ويوثق في 50 صفحة الأضرار اللاحقة بالمواقع الأثرية بحسب مسبباتها، فهناك مناطق أثرية تعرضت للقصف، وأخرى استعملت كمواقع عسكرية وثالثة تعرضت لآلاف عمليات النهب المكثفة.

المواقع الأثرية مراكز عسكرية

في منطقة دير الزور، تحول موقع تل الشيخ حمد، المعروف بمدينة «كاتليمو» الآشورية، إلى ساحة قتال بين الجيش السوري والمسلحين. هناك، تعرضت آثار الهيكل الآشوري للدمار. كما دارت اشتباكات ضارية حول قلعة المضيق في مدينة آفاميا، حيث تمركز الجيش السوري داخل الموقع، كما تمركز في قلعة ابن معن التي تشرف على مدينة تدمر الأثرية. وتظهر الكثير من الأفلام المصورة التي جرى تحميلها على صفحة «الآثار السورية في خطر» الأضرار التي حدثت في هذه المواقع.
وبحسب التقرير، يعتبر تمركز الجيش في المواقع الأثرية وتحويلها إلى مراكز عسكرية من أخطر ما قد يحصل للآثار في حال الحروب. فالجيوش لا تكترث لاستخدام آلياتها هناك، وهي تعدّ سبباً رئيسياً في تدمير هذه المواقع. والدليل؟ الأوزان الهائلة لتلك الآليات وحركتها الدائمة التي تقضي على الآثار الدفينة في باطن الارض. ويضاف إلى ذلك كله، ما قد يقوم به الجنود من أعمال تنقيب «غير شرعية» بحثاً عن القطع التي تباع في سوق الآثار، ويقضون بذلك على كل أمل في إنقاذ الموقع.
ثمة مشكلة إضافية، وهي مشكلة تمركز القوات العسكرية في المدن الأساسية كدمشق وحمص وحماه وحلب والحسكة ما يعرّض النواة والمباني التاريخية في هذه المدن للخطر، مع تحويلها إلى مراكز عسكرية. تماماً، كما يحصل في حصن الأكراد، فموقعه الجغرافي الاستراتيجي حوّله إلى نقطة صراع بين القوى العسكرية لأنه يشرف على الطريق التجارية التي تربط حمص بالداخل السوري وطرابلس. ويعد حصن الأكراد أكبر حصن صليبي في الشرق الأوسط وأهمها من الناحية الهندسية. لم تستطع التقارير أن تحدد الضرر الذي لحق بالحصن. وبحسب الدكتور بسام الجاموس، المدير اعام للآثار في سوريا، فقد عمل المسلحون على «طرد الموظفين من الحصن وبدأوا بأعمال التنقيب والنهب».

قصف الآثار والتاريخ




لم يتوقف الضرر على التمركز في المواقع الأثرية، بل امتد ليصل إلى حدود الضرر المباشر: القصف المدفعي. فقد تضررت 3 مواقع مدرجة على لائحة التراث العالمي بنيران المدافع التي دمرت النسيج العمراني لمبانيها في قرى البرة وعين سبل وعين لاروس التي تعود إلى الفترة البيزنطية الواقعة في شمال سوريا. أما مدينة بصرى، التي تعرف كذلك باسمها العثماني بصرى أسكي شام «الشام العتيقة»، والتي تعد من أغنى المواقع في الشرق الأوسط في ما يخص التنظيم المدني الروماني، فقد هلكت مبانيها من جراء القصف المدفعي على المدينة. ولم تسلم المباني الدينية أيضاً، ففي دير صيدنايا البطريركي، طاول القصف الجزء الأقدم منه الذي يعود الى عام 574، وهو الذي يعتبر من أقدم الأديرة المسيحية المأهولة في العالم، كما تضرر الجامع الأموي في درعا، وهو من أقدم المباني الإسلامية في سوريا، إذ جرى بناؤه في الأعوام الأولى للفتح الإسلامي بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. وكانت المديرية العامة للآثار في سوريا قد أعلنت أن مباني أثرية في دمشق وحلب وبصرى وتدمر وقلعة صلاح الدين كانت هدفاً لأعمال إرهابية.

سرقة المتاحف

السرقة التي اعترفت بها السلطات السورية كانت لتمثال ذهبي لإله آرامي يعود الى القرن الثامن ق.م ويعدّ رمزاً من رموز سوريا. وقد وضعت صورة التمثال على اللائحة الحمراء للقطع المسروقة التي تنشرها منظمة الـICOM المسؤولة عن المتاحف في العالم. وأُبلغت الشرطة الدولية «الانتربول» والجمارك العالمية بالأمر. ورغم أن التمثال يعدّ من أكثر القطع المطلوبة منذ كانون الأول الماضي، إلا أنه لم يعثر عليه إلى الآن! وكانت السلطات السورية قد أبلغت عن سرقة متاحف دير الزور ومعرة النعمان والرقة وقلعة جبر، كما أكد صحافيون أنه نُهبت متاحف حمص وحماه منذ أشهر. ويتفق الاختصاصيون على أن أحد أوجه الخطر في هذا المجال هو غياب التوثيق في مستودعات المتاحف، فمع غياب الأرقام والصور التي تؤكد أن هذه القطعة ملك لهذا المتحف تختفي التحف الأثرية في السوق، وما من إمكان لاستردادها.
أما بقية المتاحف السورية التي لم تسرق إلى الآن، فيحيط القلق بمصيرها، كمتحف إدلب، حيث أرشيف مدينة إيبلا العائد إلى الألف الثالث ق.م الذي كشف عن معلومات أساسية لدراسة تاريخ البشرية والمنطقة. لقد تضرر المتحف جراء القصف المدفعي. وفي هذا الإطار، نشرت صفحة «الآثار السورية في خطر» على فايسبوك، تقارير تشير إلى عملية نقل قطع أثرية من متحف حلب إلى مكان آمن، الأمر الذي أكدته لاحقاً هبة الساخل، مديرة المتاحف في سوريا، في مقابلة صحافية في نيسان الفائت. وأعلنت خلالها أن القطع يجري حفظها في مصرف سوريا المركزي، مشيرة من جهة أخرى إلى أن «علماء الآثار لم ينقبوا في كل أرجاء سوريا، فأينما تحفر قد تقوم باكتشاف، وأظن أن من يقوم بالنهب هم مواطنون سوريون يسعون وراء الربح المادي ولا يكترثون لتراث وآثار البلد».
وقد يكون السبب هو غياب السلطة المركزية، حيث تنتشر أعمال نهب واسعة للمواقع الأثرية بالجرافات، كما ظهر في صور الأقمار الاصطناعية. وقد بدأت تظهر على المواقع الاثرية فجوات يصل قطر بعض منها الى اكثر من 4 امتار، هي نتيجة الحفريات غير الشرعية، علماً أن وتيرة الحفريات قد ارتفعت على نحو خاص في محافظات شمال حلب ودرعا ودير الزور والقامشلي.
يذكر أن كثرة هذه السرقات هي نتيجة طلب واسع من سوق الآثار الدولية التي تغتنم فرصة الحروب لتدخل الدول وتشتري كل ما يباع! وباتت آثار سوريا منتشرة في الأسواق، ويتوقع أن تزداد عملية العرض في الأشهر المقبلة.



مجموعات فايسبوكية

تثير مسألة حماية الآثار والتراث في سوريا اهتمام الكثيرين، وخصوصاً العاملين في الأوساط العلمية. وقد بدأت مجموعات متخصصة ينظمها هؤلاء، هدفها جمع المعطيات عن واقع الآثار، معتمدين على مصادر رسمية وغير رسمية. في هذا الإطار، أنشأ فريق من المتخصصين صفحة على موقع فايسبوك تحت عنوان «الآثار السورية في خطر»، حيث يحملون المعلومات والصور والفيديوات التي توثق الضرر الحاصل في المواقع الأثرية. وتهدف هذه الصفحة، بحسب الفريق، إلى نشر الوعي حول المسألة للحفاظ على تراث سوريا. كذلك تحاول منظمات دولية إطلاق النداءات المطالبة بالمحافظة على المواقع الأثرية والتاريخية وعدم تحويلها إلى مناطق صراع.


وثيقة

أرض الحضارات

لكل بلد خصائصه التاريخية، وما يختلف بينها هو الغنى في المواقع الأثرية من جهة، والحضارات التي سكنت كل بلد من جهة ثانية. تعرف سوريا بأرض الحضارات، فهي كانت معبراً منذ فترة ما قبل الاستيطان، الذي أظهرت الحفريات الأثرية أنه بدأ على أرضها الممتدة على ضفاف الفرات. وقد عرف الإنسان التطور في حياته ومسكنه في سوريا، ففيها أولى المدن في العالم وفيها ممالك وحضارات خاصة بها، من إبلا إلى ماري، ومن أوغاريت إلى تدمر (...). هكذا، دخلت سوريا تاريخ البشرية من بابه العريض، كما أن امتدادها الجغرافي أعطاها غنى فريداً هو الآخر. ففي سوريا مواقع سومرية، وأخرى آرامية وفينيقية ورومانية وبيزنطية، وهي في الأساس أرض الأمويين، وعليها ترك الصليبيون أكبر قلاعهم. حتى اليوم، لم تخسر سوريا هويتها التاريخية، لكن هل سيدوم ذلك؟