كتب العالم والمؤرخ اليهودي دافيد وازرستين مقالة علمية، تناول فيها «انقاذ» الاسلام لليهودية. رأى أن نشأة الاسلام وانتشاره و«تسامحه مع ديانات أهل الكتاب» سمحت جميعها لليهودية بأن تنقذ نفسها من الانقسامات والانهيار التام بسبب خسارتها للغتها الام وترابطها. وفي المقال، يذكر الكاتب أنه عندما بدأت الفتوحات الاسلامية، «كانت اليهودية على شفير الانتهاء». ففي القرن الرابع الميلادي، حينما أضحت المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية الشرقية، بدأت عملية «التنصير»، اي فرض الديانة المسيحية على كل سكان الامبراطورية. وبدأت في حينها عملية هدم المعابد الرومانية الوثنية لاستبدالها بكنائس في كافة ارجاء الامبرطورية. ولم ينج اليهود من التنصير، فتقلصت أعدادهم بين القرن الرابع والسابع ميلادي، وذلك بتأكيد من المصادر اليهودية العائدة إلى تلك الفترة. وأدى رفض الديانة من قبل الامبراطورية الرومانية الشرقية (او البيزنطية) الى إخراج اليهود من دائرة الحياة الفكرية والقانونية والاقتصادية في كل أنحاء الامبراطورية. اصبحوا اقلية صغيرة في «امبراطورية مسيحية مترامية الاطراف».
وفقاً لوازرستين، كانت علاقة اليهود ببابل، التي كانت لا تزال مركز الثقافة والفكر اليهودي، بمثابة خشبة خلاصهم وبقائهم الوحيد، لذلك، كادت الحرب البيزنطية ــ الفارسية ان تشكل الضربة شبه القاضية لليهودية كدين. فبابل حيث كتب التلمود، «اعظم نتاج فكري يهودي الى جانب التوراة»، كانت تحت السيطرة الفارسية وانقطعت علاقتها بكل يهود الامبراطورية المسيحية. وتظهر المصادر الخاصة بيهود أوروبا تراجع استعمال اللغات الخاصة بثقافتهم: العبرانية والآرامية، التي تم استبدالها باللاتينية واليونانية، ما أدى إلى انقطاعهم عن معظم اعمالهم الأدبية الأساسية.
وبالنسبة إلى الأقلية اليهودية، يعتبر فقدان اللغة بوصفها «عنصر وحدة اليهود»، بمثابة فقدان الثقافة المتوارثة، وخطوة أساسية، نحو الذوبان في مجتمعات الشرق وأوروبا المسيحية. يستنتج الكاتب، أنه لو لم يأت الاسلام، وتبدأ الفتوحات لكان صراع البيزنطيين مع الفرس قد استمر، ولكان الفصل بين يهود اوروبا واليهودية المشرقية حول بابل قد أصبح حاداً أكثر، ولكان عدد اليهود في تقلص. كل هذا لم يحصل بسبب ظهور الاسلام. الفتوحات الاسلامية في القرن السابع غيرت العالم، وكان تأثيرها عظيماً على اليهود. تمكن المسلمون، بعد مئة سنة من وفاة الرسول، من تأسيس إمبراطورية شاسعة، ومن فتح كل الأراضي التي كان يعيش فيها يهود، من المشرق حتى الاندلس. مع مطلع القرن الثامن كان معظم يهود العالم في ديار الاسلام.
بدّل هذا الوجه السياسي والجغرافي الجديد وضع اليهود، فدخلوا في فترة متغيرات قانونية، مدنية، ديموغرافية، جغرافية، اقتصادية، ثقافية، لغوية، وكلها نحو الأفضل. أولاً، كان التحسن في الوضع السياسي. اختفت الحدود السياسية بين المحور الثقافي، بابل، والمناطق التي يسكنها اليهود في الخلافة الاسلامية من المغرب الى المشرق العربي، فعاد التواصل بين المحور والاطراف. تغير الوضع القانوني لليهود، فمن اقلية منبوذة تحولوا الى اقلية شرعية، فهم من «أهل الكتاب الذميين»، وتالياً، يتمتعون بالحرية الدينية وحرية التنقل واعتماد «شريعة موسى» في ما يخص أمورهم الشخصية. وكان لهم الحق بممثل خاص في حضرة الخليفة، مقابل قبولهم عدم حمل السلاح والقتال، ودفع جزية لخزينة الدولة. هذا الوضع، كان أفضل من التنصير.
لكن وحدة العالم الاسلامي السياسية لم تدم. الحضارة الاسلامية وفرت الاطار الذي ازدهرت فيه المجموعات اليهودية اقتصادياً، فتلاقى بالتجارة يهود الاندلس مع يهود الهند. وبما أنه بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر، كانت اللغة العربية «لغة المعرفة»، ترجم التوراة الى العربية. وفي الأندلس وبغداد، أعيد إحياء اللغة العبرانية كلغة ثانية للثقافة، فجاء مزج اللغتين وولدت لغة جديدة: العبرانية ــــ العربية، الخاصة باليهود العرب. أما نشأة وسقوط مراكز الثقافة اليهودية، فكانا مرتبطين بنشأة وسقوط مراكز الاسلام السياسية والثقافية. ولهذه الأسباب، لم يكن مستغرباً أن يتزامن العصر الذهبي للثقافة اليهودية مع العصر الذهبي للحضارة الاسلامية، وليس صدفة أن يكون التراجع متزامناً كذلك. فقد تراجعت الأهمية الاقتصادية للعالم الاسلامي بعد غزوات المغول في القرن الثالث عشر وسقوط بغداد والخلافة العباسية عام 1258. أما رأس المال الثقافي الذي اسس له اليهود في الحضارة الاسلامية، فكان له الدور الأبرز في النهضة اليهودية التي شهدتها أوروبا انطلاقاً من القرن التاسع عشر.