إعداد: محرر الشؤون القضائيةتشكّل الاغراءات المالية التي يقدّمها برنامج حماية الشهود حافزاً مهماً للعديدين ممن قد تربطهم معرفة بالمتهمين أمام المحاكم الدولية، والذين يسعى المحققون الدوليون الى الاستفادة منهم. لكن قبل تقديم اي عرض بـ «مساعدة» المدعي العام عن طريق تسجيل افادة «شاهد» تساهم في تأكيد صحّة الاتهام الجنائي، أو تساعد على تثبيت مكان وجوده، أو توقيت انتقاله من مكان الى آخر، أو على تصديق معلومات أخرى مرتبطة بشكل أو وسيلة أو كلام مزعوم صدر عن المتّهم، يقوم المحققون الدوليون بعملية تقصّ شاملة.

ففي مكتب المدعي العام فريق دولي متخصص يتواصل مع الفرق الاخرى، خصوصاً مع ضباط الارتباط بالمنظمات وبأجهزة الاستخبارات الدولية، لاجراء بحث موسّع لتحديد علاقات المتّهمين وبعض «الشهود» وروابطهم العائلية والاجتماعية والسياسية والمهنية.

وفي المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين (المعروفة باسم المحكمة الخاصة بلبنان) لا يقتصر سعي المحققين الدوليين (المستمرّ حتى اليوم) على جمع معلومات حول الرجال الاربعة مصطفى بدر الدين وحسين عنيسي وأسد صبرا وسليم عياش من خلال المؤسسات الرسمية اللبنانية، خصوصاً دوائر النفوس ومصلحة تسجيل السيارات والآليات وشركات الهاتف الثابت والنقّال والمؤسسات التربوية والصحية والثقافية، بل تشمل عملية البحث كذلك أشخاصاً آخرين من بينهم قيادات في حزب الله. واستعان المحققون بمعلومات واردة في تقارير «مكافحة الارهاب» صادرة عن منظمات وأجهزة استخبارات دولية منها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي ايه) والاستخبارات البريطانية (ام آي 6 وام آي 7) والاستخبارات الاسرائيلية (الموساد وآمان والاستخبارات العسكرية) والشرطة الدولية (الانتربول). وبما أن عرض المعلومات الاستخبارية أمام المحكمة يصعّب على القضاة قبولها كأدلة جنائية (بسبب الطرق غير التقليدية، وغير القانونية أحياناً، في جمع هذه المعلومات) تستخدم فرق التحقيق الميداني في المحكمة الدولية التي يديرها ضابط سابق في الاستخبارات البريطانية يدعى مايكل تايلور، هذه التقارير كدليل لجمع معلومات تؤكد صحتها من خلال اجراءات التحقيق العادية (القانونية). فاذا أشار تقرير الاستخبارات الاسرائيلية، مثلاً، الى علاقة معيّنة تربط بين مصطفى بدر الدين والسيد حسن نصر الله، يضيف المحقق سؤالاً بهذا الشأن على الاسئلة التي يطرحها على «شاهد» من الشهود المقنّعين الذين يراد عدّهم من اقارب أو من المقربين أو من معارف بدر الدين أو نصر الله أو من الاشخاص الذي يزعم أنهم مسؤولون في الحزب.
وفي هذه الحالات، تبقى استعانة المحققين بالتقارير الاستخبارية سرّية ولا جدوى للدفاع من اثباتها بهدف الاعتراض عليها امام القضاة، لأن مكتب المدعي العام لا ولن يذكر استخدام هذه التقارير في أي من المذكرات أو القرارات المرفوعة الى قاضي الاجراءات التمهيدية أو الى غرفة الدرجة الاولى. الا في حالة واحدة يفضّل المدعي العام نورمان فاريل تجنّبها، وهي ترتكز على افادة «شاهد» مقنّع بموجب القاعدة 117 من قواعد الاجراءات والاثبات (راجع الكادر).
ولا بد من الاشارة الى ان عدّ هذه المحكمة الدولية المحكمة الاولى المختصّة بالارهاب، يسهّل بشكل أساسي عملية تمويه مصادر المعلومات بحجة أن تطوّر المنظمات الارهابية قد يتيح لها كشف المصادر وتعطيلها. لكن الحجة الابرز لمكتب المدعي العام للالتزام بسرية المصادر و«الشهود» هي المحاكمات الغيابية. حيث يتيح ذلك لمكتب المدعي العام رفع مذكرات تبرّر عدم الكشف عن هويات عشرات الشهود وعن أي معلومة حقيقية تتعلّق بهم بحجة ان المتهمين الاربعة ما زالوا أحراراً، وقد يحاولون منعهم من الشهادة ضدّهم من خلال التهديد أو الايذاء أو حتى القتل. وكان مكتب دنيال بلمار وخلفه فاريل، بمساهمة القاضية اللبنانية جوسلين تابت، قد استخدما اسلوباً مشابهاً في منع اللواء الركن جميل السيد من الحصول على معلومات بشأن «شهود» تبين أنهم قدّموا افادات كاذبة للجنة التحقيق الدولية وللقضاء اللبناني لتبرير الاعتقال التعسّفي لثمانية أشخاص لأكثر من ثلاث سنوات. وبالطريقة نفسها، يُتوقّع أن يخفي فاريل أمام جلسات المحاكمة العلنية هوية «الشهود» الذين سيعتمدهم في سعيه لادانة الرجال الأربعة ولربطهم بالسيد حسن نصرالله.
لكن القيمين على مكتب المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لن يواجهوا الصعوبات نفسها التي واجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة مع وفاة المتهم الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش في عهدتها من دون ان تتمكن من ادانته. فبينما لا يسمح نظام محكمة يوغوسلافيا بالمحاكمات الغيابية، اتاح نظام محكمة لبنان، لأول مرة في تاريخ المحاكم الدولية، محاكمة الرجال الاربعة وآخرين في قيادة حزب الله غيابياً، ما سيسمح بهامش أكبر لتثبيت ادانتهم عبر تغييب الدفاع المباشر من جهة ولاستخدام المحكمة اداة سياسية دولية لعزل «فارين من العدالة».
مكتب المدعي العام الدولي يستفيد اليوم من ثلاثة أنواع من «الشهود». أولهم «شهود تثبيت الوقائع»، وهؤلاء أشخاص عاديون يعملون في مؤسسات تجارية وفي محال ودوائر رسمية وفي هيئات طبية او تربوية أو اجتماعية، يستعان بهم لتأكيد صحة «الوقائع» التي تشكل جزءاً من «رواية» الادعاء العام. فلمكتب فاريل رواية عن شراء شاحنة الميتسوبيشي التي وضعت فيها العبوة الناسفة، ولاثبات أن أحد المتهمين الاربعة اشترى هذه الآلية مستخدماً أوراقاً ثبوتية مزوّرة، قد يستعين المدعي العام بافادة موظفين في دوائر النفوس وفي مصلحة تسجيل السيارات والآليات أو من أقارب هؤلاء الموظفين أو «شهود» آخرين قد يدّعون أنهم شاهدوا المتهم وهو يستخدم الهوية المزوّرة. الفئة الثانية من «الشهود» يطلق عليهم «الشهود الخبراء»، الذين سعى المدعي العام أخيراً الى الحفاظ على سريتهم أمام محامي الدفاع بحجة أنهم ينتمون الى دول لم تنته حتى اليوم من تأمين كامل اجراءات الحماية لهؤلاء. «الشهود الخبراء» هم مهندسون وأطباء ومتخصصون في الجوانب التقنية التي تشمل المتفجرات والاتصالات والطب الشرعي والمباحث العلمية. أما الفئة الثالثة والابرز فتتشكل من «شهود» مقنّعين يدّعي نورمان فاريل أنهم مقربون من قيادة حزب الله، ومن بينهم أشخاص يزعم أنهم من أصدقاء المتهمين الاربعة وأقاربهم.



سرّية شهود المخابرات الدولية

يستحق ذوو مئات الآلاف ممن قتلوا في رواندا وسييراليون ويوغوسلافيا السابقة وتيمور الشرقية، وذوو الرئيس الشهيد رفيق الحريري وغيره من الشهداء، احقاق الحقّ عبر محاسبة المجرمين الحقيقيين والابتعاد عن الصاق التهم بأشخاص وبجهات يحدّدها الادعاء العام مراعاة لمصالح الدول القوية و«لعبة الامم». لكن المحققين في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان اختاروا، مثلما اختار بعض المحققين في المحاكم الدولية الاخرى، تسهيل مهامهم عبر الاستناد الى تقارير الاستخبارات واقتصار عملهم على تأكيد صحة هذه التقارير.
وبما أن أجهزة الاستخبارات الدولية أكثر تطوّراً من أي جهاز تحقيق قضائي، تمكنت من انتاج تقارير مفصّلة تتضمن أسماء وعناوين دقيقة وارقام هواتف وصوراً وتسجيلات صوتية ومرئية ونتائج فحوصات مخبرية وآثار حمض نووي يزعم أنها تشير الى ضلوع الرجال الاربعة في الجريمة، بالتنسيق مع قيادة حزب الله وعلى رأسها السيد حسن نصرالله.
فللمادة 117 من قواعد الاجراءات والاثبات الدور الاساسي في تمويه هذه التقارير وتحويلها الى محضر من محاضر التحريات القضائية التي يفترض أن تعمل وفق «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية».
اذ يرد في القواعد انه اذا كان الابلاغ عن مصدر معلومات للمدعي العام «قد يؤدي الى المساس بالمصالح الأمنية لاحدى الدول أو لاحدى الهيئات الدولية، يجوز للمدعي العام الطلب من القاضي اعفاءه كلياً أو جزئياً من موجب الابلاغ» (الفقرة ألف من المادة 117) وفي هذا السياق لا ذكر على الاطلاق للمصالح الامنية اللبنانية.