تحتلّ مزرعة رزق الله بعلبكي للطيور والدواجن جزءاً من غابة الصنوبر وبساتين حلسبان الممتدة على طرف القبيات. تملأ أصوات طيورها وصراخ بعض أنواع حيواناتها أرجاء وادي حلسبان، حيث بدأ النمو العمراني فيها يقضي على عذرية الغابة ونقاء طبيعتها. ليست المزرعة لرجل ثري جعل منها مكاناً للاستجمام في عطلة نهاية الأسبوع، بل هي أشبه بطفل كبر برعاية صاحبه على مرّ الأيام والسنين.
كان معيكي يصطاد العصافير قبل أن يمتهن تربيتها. عشق هذه المهمّة. تماهت عدة الصيد التي كانت في حوزته مع فقره، سمة أبناء حيّه في ذلك الوقت. «النقيفة»، وهي عبارة عن زوج من الحبال المطاطية قاعدته «شاعوب»، وهو عود يتألف من ثلاثة شعب، تربط اثنان منها زوج الحبال فيما يمكن الثالث الصياد من الإمساك بالنقيفة والتصويب. ينتهي الطرف الآخر من الحبلين المطاطيين بجلدة تستخدم لوضع قطعة من الحصى، وهي بمثابة الحشوة القاتلة إذا ما أصاب الصياد الهدف.
لم يستمر معيكي طويلاً في ممارسة هواية قتل العصافير. فضّل تربيتها، مركزاً على اقتناء الحسون والبلبل لسببين: فالأول يعدّ من بين أجمل أنواع العصافير التي تطلق أصواتاً أقرب إلى لحن يستمر دقائق عدة. أما الثاني، ورغم بشاعته وكثرة فضلاته وأوساخه، إلا أنه ودود يربيه صاحبه بمعزل عن أمّه، ويتنقل داخل المنزل وخارجه من دون الحاجة إلى وضعه في القفص. كبُر الرجل وبدأ العمل. لكنه لم يقتنِ بندقية صيد كما كان يفعل أقرانه بعد أول راتب يقبضونه، بل راح يشتري العصافير التي كان يراها أمام الدكاكين المختصة ويحلم باقتنائها.
في البداية، اشترى معيكي طائر الكنار، ثم عصافير الجنة الصغيرة جداً والغرام. كبرت أحجام الأقفاص وزادت أعداد العصافير حتى ضاقت عليها جدران المنزل. فقرر عام 1993 بناء مزرعة للطيور وبعض الدواجن. تحوّل محيط المنزل إلى ما يشبه غابة صغيرة تضم أنواعاً كثيرة من الطيور، كان القليل منها معروفاً لدى أهل البلدة. لاحظ مع الوقت أن بعض الطيور، كالطاووس، تصدر أصواتاً أقرب إلى الزعيق. لم يبدِ الجيران انزعاجاً من الأمر، لكن صاحب المزرعة الذي يعتزّ بزيارة الأصدقاء لرؤية ما لديه من جديد، رفض أن يكون ومزرعته مصدر إزعاج للآخرين. نقل مزرعته إلى منطقة حلسبان الحرجية، بعدما بنى بيتاً صيفياً له بين أشجار الصنوبر. شكل هذا المكان فرصة كبيرة لتوسيع تشكيلة الطيور والحيوانات التي يمتلكها. فبالإضافة إلى أنواع شتى من الطيور مثل الحجل والطاووس والفيزون، ضمت المزرعة أصنافاً غير مألوفة من الحيوانات مثل الغزال، والماعز السويسري، والقنفذ، فضلاً عن الأرانب والإوز والبط والديك الرومي وكل ما يخطر بالبال. باختصار، كرس صاحب المزرعة وقته للتنقل بين المزارع ومحال الطيور، حتى إنه كان يتربص بـ«الفانات» الجوالة التي تختص ببيع الحيوانات، عله يظفر بنوع لا تحويه مزرعته.
تكاد مزرعة معيكي تبلغ درجة الكمال، وقد أصبحت مقصداً لطلبة المدارس والفرق الكشفية. وزاد عدد زوارها بعد افتتاح أكثر من مطعم ومنتجع في منطقة حلسبان. ونادراً ما يقصد المنطقة سائح لبناني أو أجنبي إلا ويعرّج على المزرعة. دخول المزرعة مجاني، فصاحبها يكتفي بمتعة رؤية الأطفال يرمون بالخبز لحيوانات مزرعته.
لم يتاجر معيكي من خلال مزرعته، مكتفياً ببيع الفائض. يرغب في تحويل مزرعته إلى سفينة نوح، تحوي زوجاً من كل نوع. باع على سبيل المثال طائر الفيزون بمئة وخمسين دولاراً، وأنثى الطاووس بمئة دولار، والذكر بمئتين. أنواع العلف التي تستخدم في المزرعة تقليدية جداً، مثل القمح والذرة والشعير. تستهلك المزرعة بمعدل مئتي دولار في الشهر، كلفة العلف، وتلحقها بعض المصاريف المرتبطة بالوقاية والمعالجة الصحية. لكن هذه الأخيرة ليست باهظة الثمن بحكم الخبرة التي اكتسبها صاحب المزرعة على مدى الأيام والسنين.
تتعرض المزرعة لبعض الانتكاسات من وقت إلى آخر. نفقت عنزة سويسرية العام الماضي، إضافة إلى أنواع أخرى من الماعز التي تسممت جراء استخدام دواء للقضاء على «البراغيت» التي اجتاحت المزرعة بكثافة.
لدى سؤال صاحب المزرعة عن وجود مزارع مماثلة في لبنان، يقول إنه لا علم له بذلك، لافتاً إلى أن المزارع التي عرفها أنشئت بقصد التجارة، فيحدث مرات عدة أن يسأل عن نوع معين من الحيوانات ليجده مفقوداً بحكم العرض والطلب.
تشكل الطيور والدواجن وغيرها من الحيوانات اليوم الحيّز الأكبر من حياة رزق الله معيكي. من دونها، تفقد حياته قيمتها.