قد يعتقد البعض أنّ الكتابة عن المحافظة على الآثار في زمن الحروب هي انتقاص من حقوق الضحايا البشرية. هذا ليس صحيحاً. فمنذ أن دخلت البشرية عصر النهضة، وبعد الحربين العالميتين، بات الإنسان محور الحياة في العالم، وباتت حريته وكرامته وحقه في الوجود هي المبادئ المؤسسة لفكر هذا القرن. لذا، فالأولوية في فترات الحروب هي للضحايا، وخصوصاً المدنيين. لكن لهؤلاء حقوقاً بعد الحروب تتمثل بالمحافظة على مدنهم وأماكن حياتهم. وللناجين من الحروب الحق في العودة إلى أرضهم وأن لا يخسروا هوياتهم الجماعية والفردية والتاريخية. هذا يعني أنّ المطالبة بالمحافظة على التاريخ في أوقات الصراع ليس ترفاً أو من الكماليات بل هو نوع من صيانة حق الإنسان بالوجود... عندما تنتهي الحرب. الحروب لا تدوم إلى الأبد، ولا بد أن ينتهي النزاع ويبدأ العمل على بناء ما دُمّر. والمطلوب أن تبقى الأصوات مرتفعة خلال الحروب نفسها كي لا تبدأ ورشة الإعمار وكأن الأرض صحراء خاوية، فتجرف البيوت والأسواق والشوارع. وعندما يعود الناجون إلى منازلهم وأملاكهم ليعيدوا إعمارها، يجب أن يعدّوا ذلك جزءاً من تاريخهم الشخصي ومن تاريخ المبنى. لكن، عندما تجرف الأماكن القديمة تبدأ خسارة الهوية التي لا تقدر بثمن. في العصور القديمة، كان قادة الجيوش عندما يقررون إنهاء شعب ما حاربهم ببسالة، يأمرون بجرف مدينته، فتضيع الهوية، وتتبعثر الركائز فتتشتت الشعوب في الأرض وتنهار الأنظمة المقاومة لحروبهم.
تحمل المباني ذاكرات الشعوب. مع الزمن، تصبح الأماكن والمعالم جزءاً من الحياة، ورؤيتها بصورة دورية تعطي استقراراً نفسياً وتعزز الشعور بالانتماء إلى المكان. بعد الحرب العالمية الثانية، جهدت أوروبا بصورة غير مسبوقة لإعادة بناء مدنها القديمة، تماماً كما كانت قبل الحرب، لكنها تركت في المباني ثغراً للذكرى. المبدأ المعتمد لتخطي الحروب هو «اغفر ولا تنسَ أبداً».
لكن الموضوع مغاير في حالة حلب والمواقع الأثرية والمباني التاريخية السورية. فإذا دمرت هذه المباني القديمة، فلن تكون إعادة إعمارها سهلة، لأنّ مواد بنائها تاريخية. ولأن الحرب في سوريا هي حرب أهلية، يمكن تشبيه تدمير التاريخ بنزاع أولاد العم على قتل الجد! في النهاية، هم الخاسرون لكونهم يصبحون أيتاماً باختيارهم.