«لا أُحسِن التقاعد.» عبارة افتتح بها رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق غالب غانم حديثه لـ«الأخبار»، مُعرّفاً التقاعد بأنه فن الراحة مع بعض الكسل، وهو أمرٌ يرى غانم أنه لا يُجيده. يوافق القاضي المتقاعد على إجراء تقويم لتجربته القضائية أمام الإعلام في أوّل أيام تقاعده، فيبدأ بمراجعة لفترة تولّيه رئاسة مجلس القضاء الأعلى التي دامت سنتين وعشرة أيام، لكن مع مراعاة موجب التحفّظ في القضايا القضائية الذي يُحتّمه عليه منصبه السابق. يتحدّث القاضي غانم عن إنجازات ميّزت عهده لكنه لا ينفي الإخفاقات والفشل في بعض الأماكن. يذكر أنه كانت هناك آمالٌ لم تتحقّق وإصلاحاتٌ لم تُنفّذ، فينطلق غانم من رؤيته بأن أغلبية القضاة جيّديون، ليعترف بأن «هناك قضاة لا يستحقّون أن يكونوا قضاة». من هذه العبارة يدخل رئيس مجلس القضاء الأعلى إلى وعد أطلقه عند تولّيه الرئاسة لكنه لم يحققه، فيذكر أنه وعد بتطبيق المادة 95 من قانون القضاء العدلي التي تُخوّل مجلس القضاء النظر بأهلية القاضي، فيلفت إلى أنه لم يُنفّذ ما وعد به موضحاً أن ذلك أكبر ضربة للإصلاح. اعتراف القاضي غانم بالإخلال بوعده يتبعه تبريرٌ منطقي يُخليه من مسؤوليته، فهيئة التفتيش التي تدرس الملفات لم تُقدّم له أية أسماء ليتّخذ بدوره أي إجراء بحق القضاة موضع الاشتباه. ينظر القاضي غالب غانم إلى تجربته بعين الرضا، إذ إنه كان يقوم بواجبه لا أكثر، فيبدأ من تاريخ تولّيه رئاسة مركز القضاء الأعلى في 22 كانون الأول 2008 حتى 02/01/2010. يقول غانم إن الوقت كان قصيراً والتحدّي كبيراً «لكننا تمكّنا من إعادة بعض المهابة للقضاء». ويشير إلى أنه تمكّن في مجلس القضاء الأعلى من إجراء تشكيلات قضائية مرّتين تناولت 500 قاض، لكنه يعترف بأن التشكيلات التي حصلت لم تكن مثالية بل واقعية نظراً لتداخل الأمور السياسية وغيرها فيها. كذلك يشير غانم إلى أن مجلس القضاء الأعلى أضاف خمسين قاضياً إلى عدد القضاة الحالي البالغ 500 قاض، بحيث جاؤوا ثمرة دورتَي قضاة أصيلين ومتدرّجين، لافتاً إلى التهيئة لإعلان إجراء دورة للقضاة الأصيلين. ويرى غانم أن هذه الخطوة كانت في سبيل سد النقص في عدد ملاك القضاة الذي كان 750 قبل استحداث محافظتي عكار وبعلبك الهرمل ليُصبح عدد الملاك 825 قاضياً.
ينتقل القاضي غالب غانم إلى إنجاز آخر هو تفعيل عمل المجلس التأديبي للقضاة الذي أصدر قراراته في 17 ملفاً عبر الهيئة العليا للتأديب المؤلّفة من الرئيس وأربعة قضاة على أساس أن القضاء جسم سريع الانكسار يجب العناية به. وبذلك يكون التفعيل عاملاً مساعداً لمعالجة الخلل وفق مبدأ الثواب والعقاب، فبحسب رأي القاضي غانم يكون ثواب القاضي بالتشكيلات القضائية، أما العقاب فعبر محاسبته إذا أخطأ، مشيراً إلى تفعيلهم عمل الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي تنظر في مسؤولية الدولة عن أخطاء القضاة (دعاوى مخاصمة القضاة).
كذلك يتحّدث غانم عن إنجاز آخر يُضيفه إلى سجل عهده يتمثّل بحجم إنتاج القضاة، فيذكر أنه ورد نحو 128 ألف دعوى أُنجز منها 145 ألفاً. يفخر رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق بالكمية والنوعية، لكنه يلفت إلى افتقار الجودة في بعض الأحيان.
وسط الحديث عن الإنجازات والإخفاقات تبرز مسألة البطء في بت القضايا المحالة إلى المجلس العدلي الذي كان رئيسه، فيستبعد غانم مسؤولية القضاة عن التأخير معيداً السبب إلى تأخير تعيين بعض أعضاء المجلس العدلي لمدة سبعة أشهر. كذلك يشير القاضي غانم إلى تعيين جلسات لستّ قضايا لدى المجلس العدلي خلال السنة الجديدة. ينطلق القاضي المتقاعد من الحديث عن التأخير ليشير إلى أنه يؤيّد إعادة النظر بتكوين المجلس العدلي الذي يرى أنه يجب أن يكون على درجتين. فيشير إلى أنه في الدرجة الأولى يؤلّف المجلس العدلي من رؤساء محاكم الجنايات في لبنان (5 أعضاء)، فيما يكون تكوينه في الدرجة الثانية وفق التشكيلة الحالية، فلا تنتقل إلا قضايا محصورة قانوناً من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية، فتتوفّر «الضمانة للمحكومين بعدالة أكبر ونتمكن من الإسراع في بت هذه القضايا لأننا خفّفنا الضغط».
أما في ما يتعلّق بدور مجلس القضاء الأعلى في السعي نحو استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، فيذكر القاضي غانم أنه أعدّ مشروعاً لتكريس استقلالية القضاة بناءً على تكليف من رئيس الجمهورية ميشال سليمان. ويشير إلى أنه تقدّم بالمشروع منذ 3 أسابيع يتضمّن نحو ثلاثين نقطة إصلاحية، أبرزها عدّ السلطة القضائية مستقلّة بكيانها ومنحها استقلالاً مادياً وإدارياً. وردّاً على السؤال عن عدم السعي إلى استقلال السلطة القضائية عن مثيلتها السياسية عبر اختيار أعضاء مجلس القضاء بواسطة الانتخابات كي لا يلهث القاضي أمام باب السياسي، أجاب غانم بأنه ليس ضدّ توسيع قاعدة الانتخاب «لكن نظامنا القضائي يمنع ذلك». وأشار إلى أنه لا يعلم ببلد يُنتخب فيه رئيس مجلس القضاء الأعلى أو مدّعي عام التمييز، مؤكّداً أن الحل لاستقلال السلطة القضائية لا يكون إلا بثقافة استقلال لدى القضاة أنفسهم.
ينتهي رئيس مجلس القضاء الأعلى من تقويم فترة عضويته في رئاسة مجلس القضاء الأعلى بخلاصة القول: «لم أخترع البارود بل تصرّفت وفق ما يُمليه الواجب».
وينتقل بعدها إلى الأفق الجديد الذي بدأه «طليق اليدين مثلما كان قبل لحظة تقاعده»، فيتحدّث عن رغبته الاستمرار في «الخدمة العامة».
وفي الختام، يُنهي القاضي المتقاعد غالب غانم حديثه بأنه سلّم الأمانة لزملائه القضاة من دون أن يُخفي انشغال باله بخشيته على القضاء من العواصف السياسية وغير السياسية. يُسلّم غانم الأمانة ويستعدّ لبدء حياة جديدة وفق المبادئ نفسها، حياة لا يُخفي فيها طموحه السياسي إلى مركز وزاري يُكمل مسيرته، فمن يعلم؟ ربما تكون الظروف مؤاتية ليكون وزير العدل القادم.



وُلد ابن بسكنتا غالب غانم عام 1943. درس الأدب العربي والحقوق والعلوم السياسية. تخرّج في كليّة الحقوق في الجامعة اللبنانية عام 1966 ومارس المحاماة 6 سنوات قبل أن ينتسب إلى معهد القضاة ويتخرّج عام 1975. عُيّن عام 1981 رئيساً لمحكمة جونية وتدرّج في المراكز المختلفة من رئيس هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل إلى رئيس مجلس شورى الدولة فرئيساً أول لمحكمة التمييز وحكماً رئيس مجلس القضاء الأعلى عام 2008.