بثّ تلفزيون الـ«نيو تي في» أخيراً تسجيلات صوتية لرئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري وهو يدلي بإفادته أمام محققين تابعين للجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال والده. ويفترض أن تحال التسجيلات على هيئة قضائية مستقلّة للتدقيق فيها ولاتخاذ خطوات الملاحقة المناسبة اذا ثبتت صحّة مضمون تلك التسجيلات. فالرئيس سعد الحريري وجّه، كما سُمع في التسجيلات، كلاماً نابياً بحقّ رئيس تحرير صحيفة لبنانية ورئيس الجمهورية العربية السورية، وادّعى أن رئيس تحرير صحيفة أخرى كان يبتزّ والده، وأن ضبّاطاً في الجيش العربي السوري كانوا يتقاضون أموالاً من الرئيس رفيق الحريري. كلّ ذلك، إذا صحّ، حتى لو غيّر الرئيس سعد الحريري مواقفه منذ تاريخ التسجيلات، يستدعي متابعة قضائية. إذ يفترض إحقاق الحقّ عبر تطبيق القوانين. هذا ما لا يتوقّف تيّار المستقبل وقوى 14 آذار عن المطالبة به ليل نهار. العدالة. فلتطبّق العدالة بحقّ الرئيس سعد الحريري إذا ثبت أنه قال ما قاله وليثبت صحّة ادّعاءاته أمام القضاء. ولا بدّ من الإشارة الى أنه حتى لو ثبتت صحّة المعلومات التي ذكرها، فإنّ تعرّضه لكرامة أشخاص يُعدّ تجنّياً يحاسب عليه القانون. أما بخصوص مضمون البيان الذي صدر عن مكتبه تعليقاً على ما ورد في التسجيلات، فيشير الى أن لجنة التحقيق الدولية هي التي كانت قد كلّفته باستدراج الشاهد والمشتبه فيه محمد زهير الصدّيق. يدلّ ذلك على تجاوز لجنة التحقيق الدولية لأبسط المعايير في مجال العدالة الجنائية. فلا يجوز إشراك ضحايا الجريمة في عملية التحقيق فيها ولا يجوز مهنياً أن يطّلع الضحايا على التحقيقات التي يفترض أن تكون سرّية. حتى لو افترضنا أن استدراج شاهد ومشتبه فيه يستدعي مساهمة الرئيس سعد الحريري، فإن ذلك يمكن أن يحصل بحضور المحقق العدلي في الجريمة القاضي الياس عيد (أو من ينوب عنه من القضاة) الذي كان يومها يمثّل السلطة القضائية المختصّة المشرفة على التحقيقات.
الأمر المستغرب في تسجيل إفادة الحريري للمحققين الدوليين هو غياب وكيله القانوني أو مستشاره القضائي أو أي شخص آخر ينصحه، بصفته نجل الشهيد ورئيساً لإحدى أكبر الكتل النيابية، بعدم استخدام عبارات مهينة وبذيئة وابتعاده عن إطلاق اتهامات لا يمكنه إثبات صحّتها أمام المحكمة. إن عدم تمكّنه من إثبات صحّة أقواله قد يحوّله الى شاهد زور يفترض التدقيق في دوافعه بعد تحديدها قضائياً.
لا بدّ من الإشارة كذلك الى أن إشراك المحققين الدوليين لسعد الحريري في عملهم السرّي كما تدلّ التسجيلات، يرجّح أن يكون العرض الذي قدّمه الحريري الى السيّد حسن نصر الله بتسليم «عناصر غير منضبطين» في حزب الله بحجّة أنهم ضالعون في جريمة اغتيال والده جاء بتنسيق كامل مع المحققين الدوليين وليس انطلاقاً من أمور أخرى كما ادّعى مقربون منه. على أي حال، إذا صحّت التسجيلات، وبغضّ النظر عن المناورات السياسية التي قام بها، فإن الرئيس سعد الحريري يبدو ضالعاً، عن سابق تصوّر وتصميم، أو بسبب نقص في نضجه السياسي والأخلاقي والعدلي، في عملية غربية تستهدف المقاومة عبر آلية قضائية دولية.
لكن لماذا لم يتّخذ الضابط وسام الحسن إجراءات لحماية الحريري من «فضيحة» تسريب التسجيلات؟ أو على الأقل منع تسريب الشتائم التي أطلقها سعد الحريري بحقّ إعلاميين وسياسيين؟
يبدو أن الرئيس الشاب لا يلاحظ أن أكثر من يوقع به الأضرار هم المحيطون به والمقربون منه لا المواجهون له. هم الذين دفعوه الى التراجع عن اتهام سوريا بعد أن كانوا أبرز المحرّضين على معاداتها. وليُقل غير ذلك. أما بشأن العدالة، فلا شأن لهم فيها سوى التطبيل والتزمير وتهديد الآخرين بها وبـ«المجتمع الدولي» الذي طالما حدّد أولوياته بوجوب حماية إسرائيل من أي خطر قد يهدّدها.
لا علم للحريري على ما يبدو بمبادئ العدالة، لا علم له بقرينة البراءة أو باستقلالية القضاء أو بمنهجية الإثبات أو بقواعد المحاكمات وإجراءاتها. ولم يكلّف نفسه عناء تعيين مستشار قانوني محلّي أو دولي ليشرح له ويرشده الى الطرق القضائية التي تناسب توجّهاته. أياً تكن توجّهاته.
أما الجمهور الآذاري العريض فيشاطر زعيمه استخفافه بمبادئ العدالة الصادقة. ويرضخ ذلك الجمهور وزعيمه لإملاءات آلية قضائية دولية من دون التدقيق في صحّة نظامها وإجراءاتها وبالدوافع الحقيقية للعاملين فيها.
إن الثقة التي وضعها ويضعها الرئيس سعد الحريري بمحققين دوليين أمثال غيرهارد ليمان وديتليف ميليس ودانيال بلمار ونيك كالداس ومايكل تايلور وغيرهم، هي التي أتاحت تسريب ما تسرّب الى وسائل الإعلام، وستتيح تسريب المزيد خلال الأيام والأشهر المقبلة. وإذا كان الرئيس الحريري متخصّصاً في الاقتصاد والأعمال ولا علاقة له بالقواعد القضائية، فإن بعض المحققين الدوليين يتمتعون على ما يبدو باختصاص مزدوج قضائي/ تجاري. فلا مانع لديهم من تحصيل الربح السريع في القضاء وفي التجارة، حتى لو كان ذلك على حساب روح الرئيس الشهيد رفيق الحريري والشهداء الآخرين.