«في عام 2007 وُضعتُ قيد الاحتجاز لدى فرع المعلومات. ومن لحظة وصولي إلى مركز الأشرفية شرعوا في ضربي. كانت عيناي معصوبتين ويداي مكبّلتين. عُزلت لمدة 20 يوماً، وعُذّبت أربع مرّات بأسلوب «الفروج» وصُعقت بواسطة كابل كهربائي. حُرمت من دخول الحمّام لمدة 36 يوماً، وبقيت مرتدياً الثياب نفسها لمدة شهر. وعندما طالب عدّة زملاء لي معتقلين بشرب الماء، تعرّضوا لحادثة شنيعة، لقد بال عناصر من المعلومات في أفواههم». هذه الكلمات ليست نصاً من كوميديا سوداء، ولا شعراً ألقي في إحدى حانات السهر، بل شهادة لمواطن أدلى بها أمام ناشطين في مجال حقوق الإنسان، ونُشرت في مؤتمر صحافي عُقد أمس لمناسبة إعلان تقرير عن «الاعتقال التعسّفي والتعذيب في لبنان».قدّم التقرير أمس لجنة منظمات الخدمة الطوعية، وهي منظمة إيطالية غير حكومية، بالاشتراك مع 3 منظمات لبنانية غير حكومية، هي: كفى عنف واستغلال، حركة السلام الدائم، والمركز اللبناني لحقوق الإنسان، وهو يأتي من ضمن مشروع «الفسحة المعددة الوسائط لحقوق الإنسان» المموّل من الاتحاد الأوروبي. كان لافتاً أن التقرير لم يوثّق جميع الشهادات التي أعلنها، إذ لم يذكر أسماء أصحاب بعض شهادات التعذيب الواردة، فيما ذكرت أسماء وتواريخ محددة في شهادات أخرى. وكان لافتاً ما أوضحه التقرير، من خلال الإحصاءات والمقابلات التي أجريت، أن لا جهاز أمنياً في لبنان بريء من ممارسة التعذيب. في الشهادة المذكورة آنفاً، كان المُعذّب عناصر من فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. غير أن مواطناً آخر كشف في شهادته أنه تعرّض لأصناف التعذيب على أيدي عناصر من استخبارات الجيش اللبناني. ومما جاء في الشهادة: «في بداية عام 2009 قصدتني أجهزة استخبارات الجيش، وطلبت مني اللحاق بها إلى الثكنة العسكرية في الحي الذي أقطن، وذلك للإجابة عن بعض الأسئلة. بقيت 4 أيام في الثكنة دون إطلاعي على السبب أو السماح لي بالاتصال بأي شخص. وفي اليوم الخامس، أصعدوني إلى سيارة جيب، وعند الوصول إلى وزارة الدفاع عصبوا عيني، وقبل أن يتسنى لي الوقت لاستيعاب ما يحصل، وجدت نفسي مرفوعاً بآلة «البلانكو». كانت عيناي معصوبتين، وقيل لي إني اعترفت بانتمائي إلى فريق إرهابي. أمضيت 7 ساعات معلقاً على «البلانكو»، وفي الإجمال بقيت 6 أيام في وزارة الدفاع. هناك، تلقّيت صعقات كهربائية، وأجبرت على الوقوف لساعات وساقاي مفتوحتان. تعرّضت لكل أنواع الشتائم. انتهى بي المطاف بتوقيع كل الأوراق من دون أن يُسمح لي بقراءتها. وفي اليوم السادس، أخذوني إلى غرفة صغيرة حيث عاينني رجل، قال للآخرين إنه يجب التوقف عن تعذيبي لأنني كنت مُنهكاً. كان الرجل طبيباً».
شهادات كهذه يرويها مواطنون تعرّضوا للتعذيب على أيدي الأجهزة الأمنية، وليس مستهجناً أنّ هذا يحصل في لبنان، نظراً إلى الكثير من السوابق في هذا المجال. ولكن يُشار هنا إلى صعوبة تواجه بعض المتابعين في التثبّت من بعض حالات التعذيب، لكون الشهادات تأتي متأخرة أحياناً، فتكون الآثار قد اختفت عن الجسد، فضلاً عن تقاعس بعض قضاة التحقيق في عرض مدّعي التعرّض للتعذيب على أطباء شرعيين، بغية التثبت ووضع تقارير طبية رسمية في هذا الشأن.

الاعتقال التعسّفي

خلال العام الماضي، صرّح عدد من النواب والمسؤولين القضائيين بأن عدد الموقوفين في السجون اللبنانية يبلغ 70% من أصل جميع السجناء. النسبة عالية لا شك، بل مخيفة، وتتضخّم نتيجة «قلة مروّة» بعض القضاة في بتّ المحاكمات، أو بسبب التشريعات التي تحتاج إلى تعديلات قانونية، أبرزها المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي ما زالت على حالها رغم ارتفاع الكثير من الأصوات الحقوقية المنادية بالتعديل.
لم يغب هذا الموضوع عن تقرير المنظمات غير الحكومية المنشور أمس، حيث أشار إلى الأجانب الذين تجاوزت فترات اعتقالهم مدّة العقوبة، وهؤلاء يمثّلون نسبة 13% من مجموع الأشخاص المعتقلين. وفي الإطار نفسه، ذكر التقرير أن 400 شخص أوقفوا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في قضايا أمنية، قد تعرّضوا لانتهاكات في الإجراءات جعلت اعتقالهم تعسفياً. من النماذج الحيّة على هذا الموضوع، قضية المواطن محمد عمر الذي استمر اعتقاله لمدّة 6 سنوات من دون إصدار حكم عليه. نموذج آخر ذُكر في التقرير، وهو العميد فايز كرم، الذي أوقف للاشتباه في تعاونه مع العدو الإسرائيلي، إذ «اعتقل بالسر، واستُجوب بغياب محاميه لمدة 8 أيام قبل إحالته على قاضي التحقيق». لم يُتطرق إلى الجوانب السياسية في قضية كرم، بل كانت إشارة إلى الجانب القانوني والتقني البحت.
ومن النماذج للظلم اللاحق بالمواطنين جرّاء التوقيف التعسفي، نموذج المواطن عصام عطية، الذي كان يمكن أن يخلى سبيله قبل 10 سنوات من تاريخ استحقاق الإفراج، لو توافر له محام يدمج العقوبات الصادرة بحقه من خلال إجراءات تقنية بسيطة. هكذا، يمكن المواطن الفقير في لبنان، غير القادر على دفع بدل أتعاب المحاماة، أن تتبخّر 10 سنوات من عمره خلف القضبان، فيما الدولة لا تجد نفسها معنية بتوعية هذا المواطن لما له من حقوق، ولا تتأهب له بكل عتادها إلا عندما يكون عليه واجبات، ويا ويله إذا أخلّ بها.
أفرد التقرير فقرة لما يُعرف بـ«العزل الانفرادي»، الذي يرقى أحياناً إلى مرحلة التعذيب، بحسب رأي المقرر الخاص للأمم المتحدة البروفسور مانفريد نوفاك. وتلفت دراسة في هذا الإطار إلى الاضطرابات النفسية التي تظهر لدى الأشخاص المعتقلين، أهمها الأرق، فقدان الشهية، القلق الدائم إلى درجة الغم، فقدان الذاكرة، الاكتئاب، الاضطرابات الإدراكية والميل إلى الانتحار.

أماكن التعذيب وأنواعه

حدد التقرير المنشور، بحسب الجولات الميدانية التي قام بها ناشطون حقوقيون، بعض الأماكن التي تشهد تعذيباً بارزاً. على سبيل المثال، ذُكر مخفر حبيش وفصيلة الجديدة لدى قوى الأمن الداخلي، إضافة إلى مراكز فرع المعلومات واستخبارات الجيش اللبناني. وبحسب إفادات وشهادات مواطنين، فقد تحدثوا عن أساليب التعذيب التي تعرّضوا لها، وهي الضرب (بالعصي واللكم والركل والجلد)، الوقوف لفترات طويلة، حرمان من النوم والطعام والشراب، حرمان من استعمال الحمّام، صدمات كهربائية و«بلانكو» و«فروج»، الضرب على المناطق الحساسة في الجسم (الأعضاء التناسلية)، الركوع على ألواح مقابل الحائط، تكبيل اليدين (خلف الظهر وتشديد قبضة الأصفاد)، عصب العينين لفترة طويلة، الفلقة، الإذلال (التجريد من الملابس، التبوّل في فم المعتقل)، تهديد الموقوف وأفراد أسرته، العزلة الطويلة الأمد والترك في الردهات لأسابيع عدّة.



تعذيب أمل وحزب الله؟

أذاع الأمين العام للمركز اللبناني لحقوق الإنسان، وديع الأسمر، تقرير «الاعتقال التعسفي والتعذيب في لبنان» أمس، في فندق الكومودور ـــــ بيروت. وكان لافتاً تضمّن التقرير عبارات ذات معنى سياسي، مثل الإشارة إلى حالات التعذيب التي كانت تُمارس أيام «الاحتلال السوري». كذلك ذكر البيان أنه لم يكن من الممكن تقويم مدى الانتشار الحقيقي لادّعاءات التعذيب «الذي يمارسه أعضاء من ميلشيا أمل وميليشيا حزب الله، الذين يعتقلون المشتبه فيهم، ويخضعونهم لاستجوابات قبل تسليمهم، في بعض الحالات على الأقل، إلى الجهاز الأمني المختص».
استفسرت «الأخبار» مذيع التقرير عمّا إذا كان هناك توثيق لما ورد، فأجاب بأن «لا وثائق، ولكن هناك ادّعاءات من أشخاص فقط». إذاً هل إيراد هذه الفقرات تأتي لإرضاء الجهة المموّلة، وهي الاتحاد الأوروبي؟ أجاب الأسمر: «لا أبداً، كل ما في الأمر أن هناك ادّعاءات من قبل أشخاص قالوا إنهم كانوا قد أوقفوا لدى الجهات المذكورة، وقد دوّناها من ضمن بقية الشهادات»