قصر العدل اللبناني غالباً ما تحوّل إلى ساحة معارك صامتة، دارت رحاها تحت كفتي ميزان العدل الذي هو أساس الملك. فتحوّلت كفّتيه إلى متاريس قتال تتصارع وسطهما القوى السياسية المختلفة على قوس العدالة فيه، هادفةً إلى السيطرة على أكثر ما يمكن من أجزاء هذا القصر المتصدّع، شكلاً ومضموناً. بيادق القتال فيه، قضاة ورؤساء أقلام ومحامون وموظفون، ينضوي معظمهم تحت راية جبهته السياسية والحزبية والطائفية، فيُقدّمون فروض الطاعة لمراجعهم، استئذاناً، قبل أن يحكموا بالعدل. انطلاقاً من هذه القاعدة، تُخاض معارك التشكيلات القضائية ويُعيّن رؤساء الأقلام والموظفون، فيكون الأكثر حظوة بينهم الأقرب لمرجعه السياسي، ما عدا استثناءً طفيفاً. إحدى هذه المعارك، صولةٌ بدأها وزير العدل إبراهيم نجّار، مستبقاً بساعات استقالة وزراء المعارضة من الحكومة، وأصدر قرارين مخالفين للتوازن الطائفي ولكل الأعراف المتّبعة في العدلية وفق أوساط سياسية مطّلعة على شؤون القضاء؛ فقد ذكرت هذه الأوساط أنّ القرارين المذكورين اللذين حازا توقيع الوزير إبراهيم نجّار ضربا عرض الحائط بالتوازن الطائفي والأعراف القائمة، فضلاً عن تسجيلهما مخالفات وصفتها مراجع قضائية بأنها «بدعٌ لا سابق لها في تاريخ العدلية». وذكرت هذه المراجع أن القرارين استحدثا منصب نائب رئيس قلم بعد تكليف شخصٍ ما رئاسة أحد الأقلام عند غياب الأصيل وشغور المركز رغم وجود الأصيل، علماً بأن هذا القرار من صلاحية رئيس الدائرة القضائية أو الرئيس الأول، بحيث يُكلِّّف أحدهم الحلول محل رئيس القلم عند غيابه لعذر ما. يضاف إلى ذلك تسجيل أحد القرارين الذي يحمل الرقم 29، مخالفة إدارية أخرى بتكليفه موظفاً متعاقداً رئاسة أحد الأقلام، مستبقاً بأشهر إحالة الأصيل على التقاعد. هذا في الشكل، أما في الجوهر، فقد سُجّل في القرارين استنساب مراكز لثمانية موظّفين من لون سياسي واحد (حزب القوّات اللبنانية).وبالعودة إلى القرارين المذكورين، قرر وزير العدل في المادة الأولى من القرار الذي حمل الرقم 27، نقل السيد ديب بو عبدو، المحرّر المكلّف رئاسة قلم محكمة الاستئناف المدنية في جديدة المتن إلى قلم الدعاوى التجارية في بيروت، وكلّفه رئاسة القلم بالإضافة إلى وظيفته الأصلية. في هذا الإطار، ذكر مسؤول قضائي لـ«الأخبار» أن بو عبدو نُقل إلى العدلية كإداري بصفة كاتب، ما يعني أنه يُفترض أن يكون في مركز إداري ولا يحق له شغل منصب رئيس قلم. وأشار المسؤول المذكور إلى أن بو عبدو تنقل خلال ما يقارب سنة وشهرين، أي فترة ولاية وزير العدل إبراهيم نجّار، بين أربعة مراكز. فبدايةً تقرر نقله إلى الأحوال الشخصية، لكن «هيئة التفتيش القضائي رفضته لعدم كفاءته»، قبل أن يُنقل رئيسَ قلمٍ بالتكليف لدى قلم قاضي التحقيق في بيروت، حيث بقي لنحو ثلاثة أشهر. وفي المرة الثالثة، نُقل رئيسَ قلمٍ بالتكليف لمحكمة الاستئناف المدنية في جديدة المتن بعد وفاة رئيس القلم شربل خشّان، قبل أن يستقر في قلم الدعاوى التجارية في بيروت بعد شغوره بإحالة رئيسه السابق على التقاعد.
وفي القرار نفسه، وتحديداً في المادة الثالثة منه، قرر وزير العدل تكليف السيد كيوان كيوان، الكاتب بالتكليف لدى محكمة الدرجة الأولى البدائية في جديدة المتن (الغرفتان العقاريتان)، رئاسة قلم المحكمة المذكورة بعد إحالة رئيس القلم الأصيل على التقاعد بتاريخ 29/05/2011. وهذا القرار، هو سابقة وفق مسؤولين قضائيين. إذ يسأل هؤلاء عن الضرورة من تكليف كاتب مهمة رئيس قلم، علماً بأنه مباشر انتُدب كاتباً. وأشاروا إلى أن المركز لم يشغر بعد، متسائلين عن سبب استباق شغوره.
قرارٌ آخر، يحمل الرقم 29، طرح عدداً من التساؤلات بعدما قرّر وزير العدل في المادة الثالثة منه تكليف السيد فادي نصر، المتعاقد بصفة محرّر لدى قلم محكمة الاستئناف المدنية في جديدة المتن، رئاسة قلم محكمة الاستئناف الجزائية في جديدة المتن أثناء غياب رئيس القلم الأصيل، بالإضافة إلى وظيفته الأصلية. ففي هذه المادة، كُلّف نصر رئاسة القلم، علماً بأنه ممنوعٌ من التكليف باعتبار أنه متعاقد. أما الخلفيات، فردّتها أوساط العدلية إلى قُرب الأخير من النائب القواتي جورج عدوان.
استغرب كثيرون القرارين اللذين وُقّعا يوم استقالة وزراء المعارضة من الحكومة، فرأت هذه الأوساط أن ما تضمنه من بدع يهدف إلى تثبيت هؤلاء المحررين في المراكز المستحدثة وترقيتهم إلى رتبة موظفين من فئة ثالثة في حال إقرار مشروع قانون وزير العدل إبراهيم نجّار الموجود لدى لجنة الإدارة والعدل والرامي إلى تثبيت جميع رؤساء الأقلام. وبالتالي، تكون هذه خطوة نحو حصر السيطرة على عدد من المحاكم بالجهة السياسية التي ينتمي إليها هؤلاء.



النزاهة والكفاءة معيارا الوزير

نفى وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال إبراهيم نجّار كل ما يُساق بشأن تسييس وتطييف القرارين اللذين حازا توقيعه وتقرر فيهما تكليف رؤساء أقلام وانتدابهم. فأكّد الوزير نجّار لـ«الأخبار» قانونية القرارين المتخذين، مشيراً إلى أنّ المعيار الأوحد لقرار تكليف ديب بو عبدو (ماروني) رئاسة قلم الدعاوى التجارية في بيروت، خلفاً لرئيس القلم رفيق حنّاوي (شيعي) الذي أحيل على التقاعد في الخامس من شباط، كان الكفاءة ونظافة اليد. ولفت الوزير المصرّف للأعمال أنه لا طائفية في الوظيفة إلا لموظّفي الفئة الأولى. أما ما يُروّج له من كيدية واستنسابية بنى عليهما الوزير قراره، فرأى نجّار أنها أكاذيب لا أساس لها. وشدّد الوزير على اعتماد الكفاءة في المناصب بدلاً من تطويبها لمصلحة أي طائفة من الطوائف.



لقطة

أبدت أوساط سياسية مفاجأتها من توقيع وزير العدل إبراهيم نجّار لقرارين سبق أن اتُّفق على آلية معالجة موضوعهما بطريقة مختلفة. وأكّدت هذه الأوساط معرفتها التزام الوزير نجّار كل الأعراف، لكنها استغربت دخوله المتاهات والزواريب السياسية، مشيرة إلى أنّه ربما تعرّض لضغوط سياسية من الجهة السياسية المحسوب عليها.
وإذ رفضت الأوساط المذكورة كل ما تضمّنه هذين القرارين، رأت أن قرارات التكليف لن تُقدّم أو تؤخّر. فوزير العدل المقبل سيعمل على إلغائه فور تسلمه. ورغم حرص الأوساط المذكورة على نزاهة الوزير، لفتت الأوساط نفسها إلى أن الوزير وقّع القرارين بتاريخ مسبق.