الضنية| مشكلة مخالفات البناء تتكرر مشاهدها يومياً في بلدات الضنية وقراها الـ 36 منذ عقود، كما في بقية المناطق اللبنانية الأخرى، وخصوصاً الريفية أو الواقعة في الأطراف، ولم تجد لها طريقاً إلى الحل بسبب عدم مبادرة أي جهة رسمية إلى إيجاد حلول لها، وخصوصاً أن أغلبية الأراضي السكنية أو الزراعية في المنطقة ما تزال حتى الآن موروثة ومقيّدة بأسماء الأجداد أو ما هو أبعد منهم، أو مقيّدة منذ أيام العثمانيين بأسماء ملاك الأراضي الكبار في المنطقة (الآغوات)، وإما مرهونة لأسباب مختلفة منذ سنوات بعيدة لأشخاص أو مصارف، ما يجعل إمكان التصرف بها (فرز، بيع، بناء وغيره) من قبل الأبناء والأحفاد غير ممكن، وتترافق أغلب الأحيان بتعقيدات إلى أبعد الحدود.أمام هذا الواقع الصعب لم يجد أهالي المنطقة، لمواجهة مشكلة التزايد السكاني، سوى اعتماد حل وحيد هو البناء المخالف وغير المرخص قانوناً فوق «أراضيهم»، الأمر الذي جعل القسم الأكبر من الأبنية السكنية والتجارية في الضنية غير مرخصة، بنسبة تصل في بعض القرى أحياناً إلى أكثر من 90%، بل إن بعض القرى ليس فيها بناء واحد مرخّص.
خلال سنوات الحرب (1975 ـ 1990) توسعت رقعة البناء غير المرخص في الضنية بسبب غياب الدولة من جهة، وحاجة سكان المنطقة إلى أبنية تؤويهم من جهة أخرى، انطلاقاً من عاملين: الأول تدفق أموال المغتربين إلى المنطقة خلال تلك الفترة؛ والثاني بقاء الضنية خلال سنوات الحرب آمنة ومستقرة، ما جعل أغلب سكانها يفضلون البقاء فيها، عدا عن توافد آلاف العائلات من المناطق المجاورة للسكن فيها لهذا السبب، ما أدى إلى اتساع الرقعة العمرانية فيها كثيراً.
في السنوات التالية، تراجعت «الطفرة» العمرانية في الضنية على نحو لافت، نتيجة عودة الجهات الرسمية إلى ممارسة مهماتها في هذا المجال، ما أعاد إليها مشاهد «لعبة القط والفأر» بين القوى الأمنية والمواطنين، والتي كانت موجودة قبل اندلاع شرارة الحرب الأهلية.
خلال هذه الفترة، عاد الاحتكاك بين المواطنين والقوى الأمنية، لكن في كل مرة كانت تحصل فيها تدخلات من فاعليات المنطقة تؤدي في نهاية الأمر إلى إيجاد «مخارج» انطلاقاً من الواقع القائم والتعايش معه. أحد هذه المخارج كان توسط نواب المنطقة والسياسيين فيها لدى القوى الأمنية، من أجل تمرير بناء مخالف، وإذا تعذر الحصول على غطاء سياسي فإن «رشوة» عناصر القوى الأمنية تبقى الحل الأكثر حضوراً وتأثيراً. وفي هذا الإطار، يروي مواطنون حكايات عن أن «عناصر الدرك يغضون نظرهم عن أي مخالفة بناء عندما يكون المبلغ الذي يقبضونه مجزياً»، لافتين إلى أن المبالغ التي تدفع لهم مباشرة أو بالواسطة تتراوح بين 500 إلى 2000 دولار عن كل بناء، حسب مساحته وسعي صاحبه إلى إنجازه في أسرع وقت. فضلاً عن ذلك، فإن مواطنين كثراً في الضنية كانوا يعمدون إلى استغلال موسم الانتخابات، نيابية كانت أو بلدية، من أجل «تهريب» بناء مخالف، في غفلة عن عناصر الدرك الذين يكونون مشغولين حينها بمراقبة الانتخابات. وبدلاً من أن تسعى القوى السياسية في المنطقة إلى إيجاد حلّ لهذه المشكلة التي تتفاقم، فإنها عملت على استغلالها إلى أبعد الحدود. فخلال الانتخابات النيابية عام 2009، وبعدما لمس مسؤولو أحد التيارات السياسية أن وضع مرشحيهم الانتخابي في القضاء صعب، أعطوا تعليمات للمسؤولين عن الحملات الانتخابية بتقديم مساعدة مالية إلى أي مواطن يريد تشييد بناء مخالف من أجل كسب أصواتهم، مقابل الطلب من القوى الأمنية غضّ النظر عن هذه المخالفات إلى حين انتهاء الانتخابات.