يستدعي البحث الجدّي في أداء المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الحريري قياس المعيار العدلي. لكن من يحدّد ذلك المقياس، وكيف يمكن التدقيق؟ قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1757/2007 ينصّ على أن المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان يفترض أن تعمل بحسب «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية». لا يتضمّن نصّ القرار تفصيلاً لتلك المعايير، لكن لا بدّ من التوقّف عند بعض الاعتبارات التي قد تكون بديهية لكلّ من يتّفق على وجوب تحقيق العدالة وفقاً للأصول، منعاً لأي تدخل سياسي في الآليات القضائية المكلّفة الحسم في قضايا جنائية. تقتضي «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية» اتخاذ جميع التدابير الفعّالة الكفيلة بعدم تسريب مضمون التحقيقات التي ينبغي أن تبقى سرّية لحين إعلان القرارات الاتهامية وانطلاق المحاكمات.
لم يعد خافياً على أحد اليوم، وخصوصاً بعد تعدّد تسريبات التحقيق وتشعبها، عدم وجود تدابير فعّالة لحماية السرّية. وقد نشرت وسائل إعلامية غربية وثائق تحقيق أصلية، وبثّت وسائل إعلام محلية تسجيلات صوتية لمقابلات أجراها المحققون الدوليون مع شهود ومشتبه فيهم.
تقتضي المعايير كذلك تجنّب المدعي العام الإدلاء بأي معلومات قد تعرّف عن هوية الشهود والمشتبه فيهم وانتماءاتهم. لكن دانيال بلمار سمح لنفسه، غير آبه بالمعايير، الإدلاء بمعلومات خلال مقابلة صحافية أجريت في 30 آب 2010، عن استجواب المحققين الدوليين مسؤولين في حزب الله بصفتهم شهوداً.
كذلك تقتضي المعايير التزام المحكمة الدولية بحرفية الاتفاق الدولي المرفق بالقرار 1757 الذي نصّت المادة 19 منه على «تباشر المحكمة الخاصة أعمالها في موعد يحدده الأمين العام بالتشاور مع الحكومة، آخذاً في اعتباره التقدم المحرز في عمل لجنة التحقيق الدولية المستقلة». ألا يفترض ذلك صدور القرار الاتهامي في أشهر قليلة بعد موعد انطلاق عمل المحكمة الدولية في 1 آذار 2009؟ وإذا كان الادعاء العام في المحكمة الدولية قد قرّر عدم الأخذ بنتائج التحقيقات التي أجرتها اللجنة الدولية. ألا يقتضي ذلك، عملاً بالمعايير الدولية، فتح تحقيق في خلل عمل اللجنة الدولية التي أنشئت بموجب قرار مجلس الأمن 1595/2005؟
تقتضي «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية» الانصياع لميثاق الأمم المتحدة واحترام سيادة الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ومنها لبنان. كيف إذاً تسمح محكمة دولية لنفسها بإعادة تفسير بعض مواد القانون اللبناني من دون استشارة المجلس التشريعي الذي أصدرها؟ وكيف يسمح المدعي العام الدولي لنفسه، بحجّة استكمال التحقيق، «استباحة» لبنان، عبر الطلب من المؤسسات الرسمية فيه إيداعه معلومات عن خصوصيات المواطنين الفردية؟
صحيح أن المتّهم بتجاوز نصّ قرار مجلس الأمن 1757 بريء حتى تثبت إدانته، لكن لا يلحظ نظام المحكمة الدولية أو الاتفاق الدولي الذي أنشئت على أساسه تلك المحكمة، آلية مراقبة للتدقيق في مدى احترام «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية». لذا، على الرئيس المكلّف ومجلس الوزراء الذي سيرأسه، مطالبة الأمم المتحدة رسمياً بهيئة دولية عليا تدقّق في عمل المحكمة الدولية تماماً، كما تدقّق أي آلية تفتيش قضائية في عمل المحاكم المحلية.
عملاً بالأصول، وإيماناً منه بوجوب تحقيق عدالة صادقة بعيدة كلّ البعد عن أي تدخّل سياسي دولي أو إقليمي محتمل، على الحكومة الآتية طلب تعليق العمل ببروتوكولات التعاون مع المحكمة الدولية لحين تصحيح الخلل.
هذا إذا كان الهدف تحقيق العدالة والاقتصاص من قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وآخرين، أما إذا كان الهدف نزع سلاح المقاومة فالتعامل مع ذلك يستدعي اعتبارات من نوع آخر.