البقاع | ما إن زالت ملامح العاصفة الثلجية الأخيرة عن البقاع حتى برزت بسرعة معالم الربيع، فافترش السهول والسهوب وشاح أخضر، معلناً بدء موسم ينتظره البقاعيون بفارغ الصبر، لأنه يحمل البديل الغذائي الصحّي من المونة الشتائية، ووجباتها الدسمة. إنّه موسم «السليق». موسم «الأكل النباتي الصحّي»، كما تحب أن تطلق عليه زينب سليمان. الحاجة التي تبلغ من العمر سبعين عاماً، لا تكاد تملّ من الرحلات الربيعية لجمع النباتات والأعشاب، فهي تنتظر ظهورها من موسم لموسم، تسرح في الحقول تجمعها وتعدّها وجبات غذائية، مؤكّدة أن «صحتي وغياب الأمراض عن جسمي» مردّهما إلى حضور هذه «الأكلات البسيطة على موائدنا من أيام أهلنا»، كما تقول. ما إن يطل فصل الربيع حتى تبدأ مشاوير زينب شبه اليومية، التي «أموّه فيها عن نفسي من قعدة البيت» والتي تتمكّن خلالها أيضاً من جمع مجموعة كبيرة من النباتات الربيعية التي تزخر بها سهول البقاع، تقدّمها لعائلتها ولأحفادها بقصد توفير غذاء شهيّ وصحّيّ لهم. وتسير حركة السيّدة وفق روزنامة نظّمتها بحسب خبرتها الطويلة، وتحدّد فيها تراتبية ظهور هذه النباتات. فمن الفادرية (البلغصون) والمصيريني بداية، كما تؤكد، إلى القرّة والجرجير والحُمّيضة عند جنبات السواقي والجداول، وما يتبعهما من الدردرية وجنينة العصفور والحلبلوب، والنفيخة والخبيزة، فضلاً عن العكّوب وقرص العنّة والـ«مخه بعبه» التي تنمو بين الصخور في جرود السلسلة الغربية. تعرفها جميعاً لكنها، كما تشرح بأسف، لم تعد «همّتها» تساعدها على التفتيش عن تلك التي تفضّلها منها وتنمو في روابي القرى وجرودها، «فهي بالطبع صحّية أكثر من نباتات السهول».
من جهة ثانية، تؤكد فاطمة حمية، التي تجوب حالياً بعض الروابي الصغيرة في بلدتها طاريا، وبيدها سكين صغيرة، وكيس امتلأ بنبتة «المخه بعبه»، أنّ الأعشاب والنباتات التي تكثر خلال هذه الفترة من كل عام، لا تخلو من الفيتامينات والألياف، إلا أن «تلك التي تنمو بعلاً في جرود القرى والبلدات البقاعية، كـ«العكوب» و«المخه بعه»، تعدّ أنظف وذات فائدة أكبر»، كما تؤكد، مقارنة بالأنواع التي تنمو في الحقول والسهول. فأنواع النباتات الجردية كالفادرية والدردرية وغيرها تنمو طبيعياً في الأراضي غير «المفتلحة» (غير المحروثة)، بعيداً عن الكيماويات التي تُرشّ حقول القمح والشعير بها. من تلك النباتات «بتاكل لقمة صحّية مية بالمية، بعيداً عن سموم الحداثة» كما تؤكد حميّة.
لم تكتسب تلك النباتات صيتها من الموروث الشعبي فقط، فقد ثبتت أهميتها الغذائية علمياً. «لا تقتصر أهمّية النباتات الربيعية على طعمها اللذيذ فقط، بل تتخطّى ذلك لتتمتع بقيمة غذائية عالية، إذ إنها غنية بالفيتامينات والمعادن والألياف، وتوفر فوائد طبية عديدة، في مقدمها تنقية الدم من الشوائب التي قد تتكون فيه خلال فترة الشتاء نتيجة قلة الحركة والوجبات الدسمة، بالإضافة الى تنظيم عمل الجهاز الهضمي وتنظيف الأمعاء» كما يؤكد ناصر شريف، الطبيب المسؤول عن محمية اليمونة، مشيراً إلى أن النباتات الجردية أكثر فائدة من تلك التي تنمو وتكبر بفعل الكيماويات.
وبسبب شيوع عادة التسليق، باتت النباتات الربيعية معروفة بتسميات شعبية بعيدة عن أسمائها العلمية الفعلية، وتتنوع بحسب المناطق اللبنانية «فإذا ذكرت الاسم الحقيقي لإحدى تلك النباتات، فلن يعرفها أحد» يقول شريف. كذلك، تختلف فترات نموّها وحياتها بين منطقة وأخرى، بحسب ارتفاعها عن سطح البحر، ففي اليمّونة مثلاً، تبدأ هذه النباتات بالنمو في شهر آذار وتستمرّ حتى حزيران، فيما ينتهي موسمها في القرى على ارتفاع 1000 متر وما دون في أوائل شهر أيار.
ولا يقتصر جمع النباتات الربيعية، على اختلافها، على الذين يجمعونها بقصد تناولها وعائلاتهم، فثمّة نساء يجمعنها بقصد بيعها وتوفير مصدر دخل موسمي لهن. من هؤلاء آمال الدروبي، السيدة التي لا تهدأ ولا تستكين، متنقّلة في سهول البلدات والقرى، تجمع ما لذّ وطاب من النباتات، وتبيعها لأشخاص يقصدونها خصيصاً لهذا الغرض. 1500 ليرة سعر كيلو الفادرية والدردرية وغيرها من النباتات التي تنمو في السهول والحقول، أما «المخه بعبه» وقرص العنّة، فقد صل سعرها هذا العام إلى 2500 ليرة.
إلى جانب كل هؤلاء، ثمة من يرى موسم «السليق» فرصة لممارسة «رياضة جسدية وذهنية»، في ربوع طبيعة خلابة «فيها ما يكفي للتفكر ولتصفية الذهن، وللغذاء أيضاً»، يقول حسين يزبك.