«ألو أمل؟... معك مخفر الجمّيزة. عليك الحضور إلينا لتسلّم خمسة قرارات جزائية متعلقة بخمسة محاضر ضبط سير». لم يرق أمل، المواطنة اللبنانية، ذاك الصوت الثقيل المنبعث من هاتفها الخلوي. «لا أذكر أنّ ثمة محاضر ضبط في حقّي، متى حصل ذلك؟»، سألت مشكّكة، فجاءها الجواب: «قبل نحو 4 سنوات، أي في عام 2007».هكذا، يحتاج محضر ضبط المخالفة في بلاد الأرز إلى أربع سنوات قبل أن يصل إلى صاحبه. على كل حال، تسلّمت أمل في اليوم التالي القرارات الجزائية الخمسة، التي نصّ كل واحد منها على غرامة قدرها 100 ألف ليرة لبنانية، أي ما مجموعه 500 ألف ليرة. هالها ما رأته مكتوباً أسفل القرارات: «يُحبس المخالف يوماً واحداً عن كل 10 آلاف ليرة عند عدم الدفع». هي أصلاً لم تتسلم قبل 4 سنوات هذه المحاضر، بل لم تعلم أنّ ثمة مخالفة قد ارتكبت، وبالتالي لم تتح لها الفرصة لدفعها آنذاك، قبل أن تتحوّل إلى حكم قضائي زادت بموجبه الغرامة أضعافاً مضاعفة. قرأت أمل أيضاً أنه يمكنها الاعتراض على القرارات خلال مهلة 10 أيام من تاريخ تبلّغها، وذلك لدى محكمة السير في بيروت.
لم يسبق لأمل أن غرقت في الأطر البيروقراطية للمحاكم في لبنان، فظنّت للحظة أن موضوع الاعتراض على القرارات القضائية أمر سهل. توجهت في اليوم التالي إلى «العدلية» لهذه الغاية. ومنذ اللحظة التي وصلت فيها إلى باب قصر العدل، بدأت رحلتها مع المعاناة الإدارية، ومع آخر النهار كانت قد كفرت بهويتها اللبنانية، التي تجعل من بعض «الأوباش» حكّاماً عليها، وليصبح مصيرها بيد بعض «السخفاء».
من باب إلى باب، ومن دائرة إلى دائرة، ومن رواق إلى رواق (زنقة زنقة) ظلّت أمل تتنقل من الصباح حتى نهاية دوام العمل في العدلية، قبل أن تحصل في النهاية على موافقة الاعتراض على القرارات، ويصدر حكم بخفض الغرامات المالية إلى نحو الثلث. وباستثناء القاضي الذي قبل الاعتراض، ورئيس القلم لديه، الذي كان لطيفاً في التعامل، كان أغلب الموظفين الذين وصلت إليهم المعاملة الإدارية يبدون تذمّراً غريباً، حتى إن صاحبة المعاملة ظنّت لوهلة أنها تطلب منهم صدقة، فيما هي أتت لكي تدفع مالاً للدولة. جيوب الدولة كثيرة، ربما هذه الأموال لا تصبّ مباشرة في جيوب الموظفين، ولذلك يصبح ممكناً فهم تذمّرهم المهين بحق المواطن أثناء قيامهم بواجبهم الوظيفي.
في قصر العدل، حيث الموظفون الذين لا عهد لهم بالكمبيوتر، احتاج أحد هؤلاء إلى طلب بيانات هوية أمل 5 مرات لملء 5 استمارات. فبدل أن تكون هناك استمارة واحدة لهذه الطلبات التي لا تحتاج إلى أكثر من دقائق لملئها، استغرق الأمر نحو نصف ساعة. البيروقراطية «المملّة» استدعت أن يُطلب من المواطنة إحضار 15 طابعاً أميرياً و5 طوابع قضائية، كل نوع يُؤتى به من مكان مختلف. لم تفهم سبب ذلك، فيما يمكن حصر المسألة في مكتب واحد. قبل ذلك لم تعرف أمل من أين تأتي بالطوابع، فأرشدها أحدهم إلى «كشك» الاستعلامات المفتتح حديثاً في قصر العدل. سألت الموظف في «الكشك»، فتبيّن أن لا علم لديه، هكذا ظهر موظف الاستعلامات كمن يحتاج إلى استعلامات. وصلت أمل إلى المرحلة الأخيرة، حيث دفع الغرامة على الصندوق. طلب منها الموظف أن تذهب إلى مكان تدفع فيه نصف المبلغ المستحق عليها، وتعود إليه بالإيصالات. فعلت ذلك، مستغربة مسألة نصف المبلغ. سألته عمّا إذا كانت قد أعفيت من المبلغ كله، فكان الجواب أن طلب منها التوجه إلى مكان آخر لدفع النصف الآخر، وأيضاً مع 5 إيصالات. تبيّن أن نصف المبلغ يذهب إلى «صندوق القضاة» والنصف الآخر إلى «المالية». خرجت أمل من العدلية وهي تسأل، ترى لماذا تخاف «الدولة» من تجنيس الأجانب؟ عجباً، هل ثمة أحد يرغب في حمل هذه الجنسية؟