«الكثير من القضايا تبدأ في المخفر وتنتهي في المخفر». عبارة تنسب إلى نقيب المحامين الأسبق شكيب قرطباوي، في إشارة إلى مخالفة القانون طوال مدّة الاحتجاز. عبارة رددها عضو مجلس نقابة المحامين في بيروت المحامي ناضر كسبار، أمس، في معرض تقديمه النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي كلود كرم، الذي ألقى محاضرة مسهبة بعنوان «حماية حقوق الإنسان في مرحلة الاحتجاز».«أين نحن من التوفيق بين مقتضيات التحقيق والاحتجاز من جهة، وحماية حقوق الإنسان من جهة أخرى؟». سؤال طرحه القاضي كرم في محاضرته أمس، لكن من دون إجابة.

إلا أنه يعلم، كما كل القضاة، ومعهم المحامون، أن مخافر لبنان ونظاراته وأماكن الاحتجاز تضج بالمخالفات الصارخة لحقوق الإنسان، ليس أقلها الأذى الجسدي وحجز الحرية لأسابيع من دون أي مسوغ قانوني.
تطرّق القاضي كرم إلى نص المادة 41 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تنص على أن المشتبه فيه «يستجوب شرط أن يدلي بأقواله بإرادة واعية حرّة، ودون استعمال أي وجه من وجوه الإكراه ضده. وإذا التزم بالصمت، فلا يجوز إكراهه على الكلام». محاضرة القاضي كانت محض أكاديمية، وليست مخصصة لمقارنة النصوص بالواقع. إلا أن الشهادات الحية لكثير من المواطنين، والمدّعمة بتقارير طبيبة رسمية، تشير إلى أن «حق الصمت» في المخافر ليس سوى «مزحة سمجة» لدى بعض رجال الأمن، الذين باتوا «مدرسة في فنون التعذيب»، على حد تعبير أحد المحامين. وفي سياق متصل، ذكر القاضي كرم أن للمشتبه فيهم الحق بالصمت وعدم إكراهم، تحت طائلة بطلان إفاداتهم، طبعاً بحسب القانون.
ماذا لو خالف الضابط العدلي الأصول المتعلقة بالاحتجاز؟ من يحاسبه؟ الجواب كان في المحاضرة ضمناً؛ فبحسب المادة 48 من القانون المذكور، يتعرض الضابط العدلي «للملاحقة بجريمة حجز الحرية، المنصوص والمعاقب عليها في المادة 367 عقوبات (أشغال شاقة مؤقتة)، إضافة إلى العقوبة المسلكية». هكذا، القانون ينص على معاقبة الضابط العدلي. لكن في لبنان يندر وجود أحكام قضائية من هذا النوع في مقابل الكم الهائل من الشكاوى. وفي دلالة على هذه الندرة، حكم صادر في عام 2007 بمعاقبة رجل أمن (حكم الفروج ـــــ القاضي هاني عبد المنعم الحجّار) أصبح محفوراً في ذاكرة المتابعين للشؤون القضائية. في هذ الإطار، لفت القاضي كرم إلى أن ممارسة العنف والإكراه على المشتبه فيه، هي «أبشع صور مخالفة النصوص، وأمر منبوذ يقتضي ردعه عند ثبوته». أما وسيلة الإثبات الأنجع، بحسب القاضي، فهي اللجوء إلى المعاينة الطبية بطلب من المحتجز أو من أحد أفراد عائلته، حيث تعمد النيابة العامة إلى تكليف طبيب شرعي لمعاينته وتقديم تقرير في مهلة 24 ساعة. تظهر هذه النصوص أن المشترع أراد للمواطن أن تكون لديه دراية بحقوقه، فلا يسكت ولا يخاف من «بطش» بعض رجال الأمن، بل يطالب بحقوقه ويسعى إلى تثبيت ما جرى عليه من تعذيب ومخالفات.
مسألة أخرى تطرق إليها القاضي كرم، هي على درجة كبيرة من الأهمية في مجال حقوق الإنسان، تتمثل بعدم وجود نص قانوني يتيح للمحامي وكيل الموقوف الحضور مع موكله في أماكن الاحتجاز. علماً بأن هذه المسألة هي حق ثابت في أغلب الدول؛ ففي فرنسا أبطل المجلس الدستوري في قرار له العام الماضي 4 نصوص من قانون أصول المحاكمات الجزائية الفرنسي، تتعلق بالاحتحجاز، وذلك بغية تمكين المحامي من الحضور مع موكله المشتبه فيه طوال فترة احتجازه. وضع القاضي كرم هذه المسألة في محاضرة ضمن فقرة بعنوان: «معالجة بعض الثُّغَر المتعلقة بحقوق المشتبه فيه». إذاً، المشكلة هذه المرة في نصوص القانون؛ إذ يخشى البعض أن ينبّه المحامي موكله إلى مخاطر الإقرار بجريمته، إلا أن البعض الآخر يرى في حضور المحامي «ضمانة لعدم تعرّضه لأي ضغط أثناء استجوابه أو لأي معاملة سيئة».



قانون

تنص المادة الـ47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، المدون نصها على لوحات وضعت في السنوات الأخيرة داخل المخافر والنظارات في لبنان، على أنه «يحظر على الضبّاط العدليين احتجاز المشتبه فيه في نظاراتهم إلا بقرار من النيابة العامة، وضمن مدة لا تزيد على 48 ساعة، يمكن تمديدها مدة مماثلة فقط بناءً على موافقة النيابة العامة». وفي فقرة أخرى من المادة المذكورة، إشارة إلى المشتبه فيه «يتمتع فور احتجازه لضرورات التحقيق بالحقوق الآتية: الاتصال بأحد أفراد عائلته أو بصاحب العمل أو بمحام يختاره أو بأحد معارفه. مقابلة محام يعينه بتصريح يدون على المحضر دون الحاجة إلى وكالة منظمة وفقاً للأصول (لا يحضر التحقيق). الاستعانة بمترجم محلف إذا لم يكن يحسن اللغة العربية. تقديم طلب بعرضه على طبيب لمعاينته، دون حضور أي من الضباط العدليين. وعلى الضابطة العدلية أن تبلغ المشتبه فيه فور احتجازه بحقوقه المدونة آنفاً، وأن يدون هذا الإجراء في المحضر».