سيكبر الطفل يوماً ويسأل عن والده. سيخبرونه أنه مات عام 2011 داخل سجن رومية. حتماً، سيعلم نادر (الصورة)، الطفل الذي لم يكمل ربيعه الثاني بعد، أن والده جميل أبو عنّة (27 عاماً) غادر الدنيا ذات ربيع على يد الدولة اللبنانية (أقله في المسؤولية). لم يكن جميل مجرماً أو سارقاً أو تاجر مخدرات، لكنه أُدخل السجن بسبب كونه فقيراً. فقبل 4 سنوات، صدم أحد الأشخاص بحادث سير عن طريق الخطأ. صدر بحقه حكم قضائي غيابي قضى بتغريمه 10 آلاف دولار كتعويض للمصاب. لم يكن يعلم أن ثمة حكماً غيابياً صادراً بحقه، إلى أن ذهب قبل نحو شهرين لإجراء بعض المعاملات الرسمية، حيث أوقفته القوى الأمنية. أخبروه أن عليه أن يدفع المبلغ ليخلى سبيله، فأجابهم إنه لا يملك هذا المال، عندها زجّوه في السجن ليقضي مدّة 6 أشهر خلف القضبان. هكذا، يمكن المال في لبنان أن يجنّب الإنسان السجن، وأما من لا يملك المال، فترى الدولة عن إنسانيته قد مالت.

إذاً، أُدخل جميل السجن، وهو مريض يعاني داء السكري، فأصبحت أمّه تزوره باستمرار وتأخذ له دواء «الأنسولين». لم تتكفّل إدارة السجن توفير هذا الدواء له، الذي يعلم الجميع أن مريض السكري لا يمكنه العيش طويلاً من دونه، لذلك ضاعفت والدته من عملها في تنظيف المنازل بغية تأمين ثمن هذا الدواء. هكذا هي الأم، تفعل كل شيء، وأي شيء، من أجل ولدها. حصل التمرّد الكبير في سجن رومية. لم يكن لجميل القدرة على المشاركة في التحرك. فقدت الدولة سيطرتها على السجن، فلم يعد بإمكان حرّاس السجن إيصال الأدوية إلى السجناء. اتصل جميل بأمه وأقاربه ليفعلوا شيئاً، قال لهم اتصلوا بأحد ما لكي أُنقل من هنا، أو فليوصلوا إلي الدواء «وإلا فسأموت». حصل ما كان يخشاه، أصابته نوبة انخفاض السُكر في الدم، فراح يرتجف جسده على مرأى السجناء العاجزين عن فعل شيء. تقول والدته إنها اتصلت بأحد المسؤولين في السجن وأخبرته عن حال ولدها، فلم تسمع منه سوى عبارة: «حلّي عنا مش فاضيين ومش قادرين نعمل شي». قاطعته قائلة إن جميل لن يصمد طويلاً، أرجو..... قاطعها قائلاً: «يموت الله لا يردّه». لا تريد هذه الأم شيئاً من الدنيا اليوم سوى الوصول إلى ذاك المسؤول، تريد أن تنظر في عينيه، تريد محاسبته.
فؤاد أبو عنّة، عمّ جميل، يرفض ما قيل عن سكتة قلبية أنهت حياة ابن أخيه. يؤكد أنه طلب انتداب طبيب شرعي ليكشف على الجثة ويحدد أسباب الوفاة، إلا أن إدارة السجن رفضت ذلك، مصرّةً على إناطة المهمة بنفسها. يتذكر العم، فتدمع عيناه، عندما دخل السجن ليتسلّم الجثّة. «وجدت جميل مرمياً في رواق مظلم عاري الجسد. كان لونه أزرق. قُتل ابن أخي بسبب إهمالهم لدوائه وقنابلهم الدخانية». يتضامن المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء أشرف ريفي، مع مشاعر العائلة. يبدي أسفاً لما حصل «لكن هذا قدره». ماذا عن التعويض، وخاصةً أن العائلة تعاني وضعاً مادياً صعباً ولجميل طفل عمره سنة ونصف سنة؟ يؤكد ريفي لـ«الأخبار» أن «التعويض حق، وحتماً سوف يحصل، نحن نتحمل مسؤولية، فلقد فقدنا السيطرة على السجن. قريباً سنزور منزل العائلة في منطقة ساقية الجنزير لتقديم التعازي».