تخيّل أربعة سجناء داخل زنزانة واحدة، كل واحد منهم موقوف بتهمة مختلفة عن تهمة الآخر. افترض أنّ التهم المختلفة الموجهة للمدّعى عليهم هي ترويج مخدرات، سرقة، تزوير واحتيال وقتل. سيعيش هؤلاء الأربعة أيامهم المتواصلة معاً، وبذلك يُحتّم المنطق أن يتحادث هؤلاء ويبثّ كل منهم شكواه للآخر. الأحاديث بينهم لن تقتصر على الوجدانيات، فبحكم التجربة سيتبادل هؤلاء السجناء الخبرات في ما بينهم تمهيداً لاستعمالها في ما بعد، أي عند خروجهم من السجن. سيتشاركون «المواهب» ويتعلّم كل منهم أساليب جرمية جديدة. سيخبر بعضهم بعضاً عن طرق ترويج المخدرات وأساليب الاحتيال أحياناً، فضلاً عن احترافهم السرقة واكتساب الجرأة على القتل أحياناً أخرى. بناءً على ما سبق، كانت ضرورة التقسيم وفصل المساجين، كلٌّ بحسب جرمه. التقسيم المعتمد عالمياً مفقود في بلاد الأرز، لذلك كانت العقوبة البديلة أكثر من حاجة إلى تطوير نظام المؤسسات العقابية في لبنان. ولأنّ هموم البلد لا تنتهي حتى يتفرّغ المسؤولين للنظر في أمر خمسة أو ستة آلاف سجين من أصل خمسة ملايين لبناني، أخذت فتاتان شقيقتان المبادرة، لإيمانهما بأن الفرد بإمكانه تغيير المجتمع، وأجرتا دراسة حول نظام العقوبة الاجتماعية البديلة وجدواها في لبنان. مايا ونانسي يمّوت، إحداهما مرشدة اجتماعية والثانية باحثة اجتماعية، انطلقتا من أمثلة حية خلف قضبان السجن الصغير، في يوميات هذا الوطن، لتخلصا إلى أن إيجابيات اعتماد العقوبة الاجتماعية لا تقارن إذا ما اعتُمدت بديلاً للعقوبة الجزائية، وبالتحديد ما يتعلّق منها بقضايا الجنح. فالعقوبة المطروحة تقوم على الاستفادة إيجابياً من طاقات المسجونين التي ستعود بالفائدة على المجتمع، كما ستغير نظرة المجتمع إلى الشخص المرتكب للجريمة إيجابياً، عكس النظرة السلبية التي تتكوّن مجتمعياً حيال الفرد الذي يقضي ولو يوماً واحداً داخل السجن.
استناداً إلى بيانات إحصائية حصلت الشقيقتان عليها، لاحظتا أن عدداً من الذين دخلوا السجن لأول مرّة لجنحة اقترفوها، تكرر دخولهم بجنحة أخرى وأحياناً بجناية. وبذلك يكون الهدف المنشود من وراء العقوبة لم يتحقق. فتطرقت الدراسة إلى أربع حالات لتقارن بين إصدار الحكم بالنحو المتعارف عليه جزائياً وبين كيفية فرض العقوبة الاجتماعية بأمر من القاضي قبل أن تفاضل بينهما. الحالة الأولى تناولت قصة فتاة زوّرت شهادتها الثانوية خوفاً من عقاب أهلها بعد رسوبها في الامتحانات، لكن، ضُبطت أوراقها المزوّرة لدى وزارة التربية فأُبلغت القوى الأمنية لتُساق تلك الفتاة إلى المحاكمة. الحكم المتعارف عليه في هذه الحالة عقوبة السجن بتهمة التزوير لمدة تراوح بين السنة والسنتين. أما العقوبة الاجتماعية فيمكن أن تكون إلزام الفتاة بـ150 ساعة خدمة لدى دار العجزة. وبالتالي تكون العقوبة الاجتماعية بنفَسها التأديبي قد منعت الفتاة المراهقة من اكتساب عادات إجرامية جرّاء اختلاطها مع المسجونات، فتُعطى فرصة لأن تُكمل دراستها بالتوازي مع تنفيذ عقوبتها بدلاً من أن تُهدر أيّامها خلف قضبان السجن دون طائل يُرتجى.
كذلك لحظت دراسة العقوبة الاجتماعية مزيداً من الأمثلة، فتناولت قصة شاب يملك ورشة عمل صدم بسيارته عن غير قصد رجلاً أثناء اجتيازه الطريق فأرداه قتيلاً. فعل القتل غير المقصود قاد الشاب إلى المحكمة للمثول أمام القاضي الذي طالبه بتسديد فدية باهظة لذوي القتيل، لكن الموقوف لم يكن يملك المال الكافي للفدية فأمر القاضي ببيع ورشته بالإضافة إلى حبسه لمدة ستة أشهر. وبذلك يكون قد وُضع الشاب لارتكابه خطأ غير مقصود مع المجرمين وأصحاب السوابق، علماً بأنّ هذا الشاب يمكن أن يكون أي واحد منّا. أما لو اعتُمدت العقوبة الاجتماعية، فكان يُمكن إلزامه بخدمة 300 ساعة لدى مؤسسات أو مراكز تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة. وبالتالي سيخرج الشاب بعد إنهاء خدمة الساعات المفروضة عليه مكتسِباً سلوكاً مختلفاً عما كان سيتعلّمه داخل السجن.
العقوبة الاجتماعية تدمج الفرد بالمجتمع وتُشعره بمعاناة الآخرين. يُخالطهم فيتأثّر بهم، وبالتالي يتغيّر سلوكه نحو الأفضل. وبحسب الدراسة، يُفترض أن تشتمل العقوبات على محاضرات وندوات وورش عمل من المرشد الاجتماعي قبل تطبيق عقوبة التشغيل الاجتماعي عليه. ورأت الدراسة أن العقوبة يجب أن تكون قريبة من نوع المخالفة أو الجنحة المرتكبة، فإذا ارتكب الفرد مخالفات مرورية تكون عقوبته توزيع كتيبات ونشرات توعية مرورية على تقاطعات الطرق. وفي حال ارتكابه جنحة بحق المجتمع، يعاقب بتقديم خدمات اجتماعية للمرضى والمسنّين وذوي الاحتياجات الخاصة. أما إذا ارتكب الفرد مخالفة بيئية فيعاقب بتنظيف البيئة والشواطئ. أشارت كلّ من نانسي ومايا إلى أنه يمكن تعديل النص القانوني، حيث يُسمح للقاضي بالاستعاضة عن العقوبة الأصلية بعقوبة اجتماعية. وذكرتا في معرض بحثهما أن هذه العقوبة تُحدّد بناءً على تقرير يضعه مرشد اجتماعي بعد الاطلاع على ملف الدعوى ودراسة وضع المدّعى عليه اجتماعياً ونفسياً والظروف المحيطة بالجرم. وأشارتا إلى أن تنفيذ العقوبة يكون تحت إشراف المرشد الاجتماعي ومراقبة القوى الأمنية، على أن يرفع المرشد الاجتماعي تقريره إلى القاضي عند الانتهاء من تنفيذ العقوبة الاجتماعية. أما إذا امتنع المدعى عليه عن تنفيذ العقوبة أو نفّذ جزءاً منها، فتُنفّذ بحقه العقوبة الجزائية المحكوم بها أصلاً.
خلص بحث الشقيقتين إلى أنّ العقوبة الاجتماعية هي الآلية المناسبة للترميم النفسي للمحكوم عليه ووسيلة ناجعة لتقويم سلوكه، فضلاً عن أنها تُسهم في خفض الكلفة المادية على خزينة الدولة لجهة التغذية والطبابة والكهرباء والمياه التي تتكلّفها الدولة نتيجة إيواء السجناء. وإضافة إلى ذلك فهي تُخفّف من اكتظاظ السجون التي تُعد السبب الرئيسي للمشاكل المتعددة التي تواجه المؤسسات العقابية في لبنان.
معدّتا الدراسة الحاملة لعنوان: «نعم للعقوبة الاجتماعية» حصلتا على توقيع أكثر من عشرة نواب، لكن رغم ذلك تستمر الفتاتان بزيارة نواب ووزراء ووسائل إعلامية لشرح فكرة بحثهما المزوّد برسوم وبيانات توضيحية تفصيلية لكيفية تطبيق العقوبة الاجتماعية وتعداد ساعات العقوبة المفترضة. وهما بذلك تأملان أن يجد جهدهما طريقه للتطبيق عبر الوزارات المعنية لتكون العقوبة وسيلة لإصلاح الفرد لا إفساده.



فكرة مشروع

استندت الفتاتان الشقيقتان نانسي ومايا يموت إلى مبدأ يقول بأن الفرد يمكنه إحداث تغيير في المجتمع لتنطلقا بمشروعهما: «نعم للعقوبة الاجتماعية». فبنظر صاحبتي فكرة المشروع يجري التركيز دوماً على المشكلات لتُضخّم دون اجتراح الحلول. من هنا كانت مقولة «أُريد حلولاً» الدافع لهما إلى البدء بالمشروع، آخذتين على عاتقهما كل التكاليف. الفكرة بحسب الشقيقتين التي تعمل إحداهما مرشدة اجتماعية والثانية باحثة، ليست جديدة، بل تُطبّق في كثير من الدول على أنها ذات نتائج أكيدة، فهما تريان أنها تحقق الغاية المنشودة بأقل التكاليف الممكنة، إذ «يجب أن نتوقّف عن التفكير كجلّادين لننظر إلى مدى اجتماعي وإنساني أوسع»، فذلك يحافظ على الكيان الأسري للشخص المرتكب ليُدفع به إلى خدمة الوطن. ورأت الفتاتان أن مشروعهما يقوم على اقتراح حل للجنح والحؤول دون عودة مرتكب الجنحة إلى السجن وتخفيف وطأة الضغط على ميزانية الدولة اللبنانية، حيث يكون ذلك عبر اعتماد العقوبة البديلة أو ما سُمي «العقوبة الاجتماعية».