صور | إذا كانت منطقة صور تضمّ ثلاثة مخيمات كبرى للاجئين الفلسطينيين في الرشيدية والبص والبرج الشمالي، وتجمعات صغرى في البيسارية وعدلون والخرايب وكوثرية الرز والواسطة وشبريحا والقاسمية وجل البحر.. وإذا كانت تلك التجمعات تضم مئات الآلاف من الفلسطينيين، فإن الآلاف سواهم ينتشرون فرادى في بلدات مدينة صور. ومنذ ما قبل نكبة 1948، أنتجت الجيرة الممتددة بين اللبنانيين والفلسطينيين تبادلاً للعادات الغذائية تلقّف الجنوبيون بموجبه أطباقاً فلسطينية كثيرة وباتوا يطبخونها على الطريقة الفلسطينية. في حي شبريحا التابع لصور والواقع عند مدخلها الشمالي، يتجاور لبنانيون وفلسطينيون. حتى إن اللبنانيين الذين يقطنون ذلك الحي منحدرون أصلاً من قرية صلحا، وهي واحدة من القرى السبع الجنوبية الحدودية، التي اجتزئت من لبنان وضمت الى فلسطين عام 1923 بموجب اتفاقية سايكس بيكو وعُدّ سكانها فلسطينيين. وصلحا، التي تمتد على مساحة اربعة عشر ألف دونم، والتي هجّر أهلها إثر النكبة وارتكبت بحقهم مجزرة وهدمت بيوتهم قبل أن يحولها الاحتلال إلى مستعمرة «افيفيم»، كانت محطة رئيسية بين لبنان وفلسطين، «تضم سوقاً دائماً في ساحتها العامة يعرض المنتجات الفلسطينية لا سيما المأكولات والحلويات منها» كما يقول مختار شبريحا، رضا عون. كذلك، تتذكر ألماظة عون (75 عاماً)، مع جاراتها الفلسطينيات، كيف كانت تلك المنطقة مكسوة بكروم التين التي تتخللها مسكبات الحمص والعدس والكرسنة (الذرة البيضاء) والخضرة. وتشير الى أن الفلسطينيين كانوا هم من أدخلوا بذور القرنبيط والبازيلا والملوخية من مرج البطوف الذي بات يعرف لاحقاً بمرج ابن عامر. كذلك، فإن زراعة الحمضيات استوردت من حيفا التي كان ينسب اليها نوع من الليمون (الشموطي الحيفاوي). وفي سوق صلحا، كان الحيفاوي المنتج الأغلى الذي يشتريه «بالحبة» كبار القوم، وخصوصاً أبناء مدينة بنت جبيل. الجيرة التاريخية وحركة التنقل المتبادلة، لا سيما نزوح آلاف الجنوبيين، الوافدين تحديداً من مدينة صور، الى مدن حيفا ويافا وعكا وبلدات الجليل ابان الانتداب البريطاني، قد مدّت المائدة الجنوبية بالأطباق الفلسطينية، كما عدّلت في الأطباق اللبنانية لتصبح على الطريقة الفلسطينية. تكفي الإشارة الى أن اشهر طبقين تمتاز بهما صور فلسطينيان. فمؤسس «صناعة الفول المدمس والمتبل» في المدينة، عبد الحسين بارود، كان قد ارتحل مع بداية الثلاثينيات، وهو لا يزال فتى، بعد الى حيفا في فلسطين حيث عمل طباخاً واكتسب الأساليب الفلسطينية، قبل أن تعيده النكبة الى صور، حيث افتتح محلّاً خاصاً لإعداد الفول على الطريقة التقليدية عبر سلقه في الرمل الساخن. ومن حيفا الى صور ثم بيروت، عُمّم الفول الفلسطيني واكتسب لبنانيته. كذلك، كان من أرسى أصول تتبيل اللحمة المشوية التي يتدافع الكثيرون لتناولها في صور قصابين عملوا في فلسطين. وعلى النحو ذاته، دخلت الفلافل الى صور إثر النكبة، مع عائلات كانت تصنعها في فلسطين مثل عائلة صهيون. فقد افتتح حسن صهيون محلّاً خاصاً به على «ساحة البوابة» بعد لجوئه إلى صور، يقدم الفلافل على الطريقة الفلسطينية التي تقتصر على طحن الحمص المنقوع مع بهاراته ثم قليه وتقديمه مع الطحينة والكبيس والبندورة، علما بأنّ مدينة صيدا تشتهر أيضاً بالفلافل التي نشرها أحد اللاجئين من مدينة عكا وهو من آل العكاوي. حتى اليوم، لا يزال الكثيرون يصفون عكا بـ«أمّ الفلافل». بالنسبة إلى لائحة الطعام التي باتت مشتركة بين الجنوبيين والفلسطينيين، نجد يخنات الملوخية والبازيلا والفاصوليا والمحمرة ومنسف اللحم والكبب على أنواعها، والمغربية وورق العنب والكوسى المحشي والفريك والدجاج المحشي والمقلوبة والأرز المفلفل. ويبقى الفلفل الأحمر الحار والسمّاق المطحون، رفيقي المائدة الفلسطينية اللذين اعتمدتهما المائدة الجنوبية.
وإلى الأكلات، صدّرت فلسطين الصابون والزيتون وزيته والحلويات أيضاً. الحلاوة بالطحينة والتين المعقود بالدبس الأذان كانا مصدر دفء في ليالي الشتاء الطويلة. أما الأعياد ومناسبات الأفراح، فكان لها كعك العيد والبسيسة والمعلل (اي البونبون الذي كان عبارة عن فواكه مجففة تغمس بسائل من القطر المحلّى). فالبسيسة انطلقت من منازل الفلاحين في الجليل المقابل للحدود الجنوبية حيث لا تزال القليلات من أبناء القرى يحفظن طريقة صنعها التي تعتمد على صنع كرات من خليط دبس الخروب وطحين القمح والزيت والسمسم.