لم يُعلَن تقديم وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال المحامي زياد بارود كتاب استقالة أو اعتكاف الى رئيس الجمهورية، والى رئيس حكومة تصريف الأعمال، لكن لو أراد الرجل صياغة كتاب كهذا لكان قد تضمّن على الأرجح التوضيحات الآتية:ليست الأحداث التي وقعت أخيراً في إحدى منشآت وزارة الاتصالات هي الدافع الأساسي لاستقالة الوزير، رغم المخالفات الجسيمة التي ارتُكبت بحقّ صلاحياته الدستورية. ولم يعتكف المحامي زياد بارود بسبب عجزه عن مواجهة مخالفي القانون بالقوة، أو بسبب رضوخه للتهديد أو خشيته من مظاهر الميليشيات المسلحة المتمرّدة في محيط «العدلية».
زياد بارود لا ينتمي الى حزب أو تيار، ولا يحتمي بطائفة أو بمذهب أو بميليشيا، كما هي حال سائر الوزراء في حكومة تصريف الأعمال. شاءت الظروف أن سُمّي المحامي الشاب وزيراً للداخلية والبلديات بعدما تعذّر توافق زعماء الطوائف والمذاهب والتيارات والأحزاب على شخص آخر ينتمي الى فريق من اللبنانيين على حساب فريق آخر. ولا يعني ذلك على الإطلاق أن الرجل عاجز عن التحدي، وعن خوض المعارك الضارية وكسر شوكة المتطاولين عليه لأي فريق انتموا، لكن الموضوع لا يتعلّق بشخص زياد بارود وبكرامته بقدر ما يتعلّق بمكانة الدولة وبموقع الجمهورية وسلامتها.
شهر موظفين في إدارات رسمية السلاح في وجه زملائهم ليس بطولة، وعدم مواجهة السلاح بالسلاح ليس تراجعاً أو هزيمة، بل إنّ في ذلك موقفاً للمثل العليا، وحفاظاً على ما بقي من مؤسسات الدولة. فلو أنّ الوزير بارود توجّه الى مبنى وزارة الاتصالات ووجّه أمراً بانسحاب قوى الأمن الداخلي منه تحت طائلة التوقيف الفوري، ولو رفض الضباط الانصياع لأوامره، كما كان مرجّحاً، لاضطر الى مواجهتهم بالقوة حفاظاً على السلطة السياسية العليا في الدولة اللبنانية. ولكانت تلك المواجهة المأساوية قد أدّت الى سقوط قتلى وجرحى وأضرار جسيمة في الأملاك الخاصة والعامة، ولكان الأمر قد تطوّر الى توتّر أمني واسع النطاق لا شكّ أن البلاد في غنى عنه.
هذه الحادثة، رغم فداحتها، لم تكن السبب وراء اعتكاف الوزير، بل إشارة إضافية الى انحطاط مؤسسات الدولة وانهيارها وتمرّد العاملين فيها على الدستور والقانون ومعايير الأخلاق العامة. ففي الجمهورية اللبنانية اليوم كراهية وصدام حادّان بين رؤساء ووزراء ومدراء وضباط وموظفين على خلفية توترات سياسية وطائفية ومذهبية. وفي موازاة ذلك يسجّل التدخل الأجنبي في لبنان أرقاماً قياسية، ويسهم في توسيع الشرخ. أما المحاصصة الطائفية والمذهبية، فتمنع المساءلة والمحاسبة، وتعطّل أيّ مسعى جدي لمكافحة الفساد. الجمهورية نحو الانهيار الكامل فهل يسهم الوزير بارود في انهيارها عبر اضطراره إلى اللجوء الى استخدام القوة، أم يعتكف تاركاً للقضاء العادل وللرأي العام تدارك سعي البعض إلى استخدام سلاح الدولة لمواجهة الدولة؟