هناك في البحر اعتقله الأمن السوري. لم يفهم الأب هادي عيّا سبب ذلك الاعتقال حتى يومنا هذا. كانوا ثلاثة رهبان على متن باخرة شحن متجهة إلى السواحل الإيطالية. فضلّ الرهبان البحر، لا لسعة صدره، بل توفيراً لثمن العبور. لم يكن «الراهب» أباً بعد وكانت الرحلة لاستكمال «الدروس اللاهوتية».
أخذوهم إلى «سجن طرطوس». ويمكن أن يتخيّل المرء ماذا يجري في سجن سوري عام 1989. بقي يوماً واحداً لكنه كان يوماً بمئة عام. لم ينسه أبداً ويعتبر أن تلك الساعات التي قضاها في الحبس البحري، أثّرت في نظرته إلى العيش خلف العالم. تطورت العلاقة بينه وبين الجدران في رأسه. في 1992 زار رومية للمرة الأولى، بصفته مترجماً للأب الفرنسي برنار فاشرو، الذي كان «المهتم الوحيد» بالمساجين في ذلك الوقت. وهكذا انتقل الراهب ــ المترجم من دير ما شعيا ليساعد فاشرو في السجن المركزي في رومية. تذكر «طرطوس» وحدث ما حدث.
أعطوه في الدير عطلة يومين كي يتفرغ للسجن ولفاشرو. اكتشف أنها «لا شيء». ذلك أن المكان محشو بالغبار وقد لفظته ذاكرات اللبنانيين المنشغلة بتعداد كوارث الحرب آنذاك. من كان يسأل عن السجن؟ من؟». يسأل الأب الشغوف بالسجناء. يفترض أننا نعرف الحرب وأن السجن كان «قبواً» هامشياً خلال الثمانينيات. تضافرت هذه التراكمات مع «ولعه» بالعالم القائم داخل الزنازين. وبدأ ينتقل من الدير إلى السجن ليقضي خمسة أيام (تقريباً) في البداية. وهكذا قضى فترةً طغى عليها الروتين، وتعلم فيها قواعد السجن وأولويات السجين. تنقل خارج بيروت أيضاً، دائماً إلى السجون. غرق في مهامه الجديدة، ويعترف أنه «ارتكب أخطاءً كبيرة». وبعد سلسلة من الأحداث تنبه عيّا الى أنه «غير مؤهل للعمل الاجتماعي». ذات مرة أوصل سجيناً أنهى محكوميته إلى أحد الأرياف. أوقف سيارته ليبتاع له الخضر، فما كان من السجين «السابق» إلا أن أدار محركها وغادر فيها. استغرب الأب وراح يناديه. لم يتقدم بشكوى ضده لكنه تعلم الدرس. ولم يكن الدرس كافياً. ففي مرة أخرى، اتجه إلى بيروت لمقابلة أحد الأشخاص بتوصية من أحد السجناء. كانت بيروت ما زالت مقطعة إلى «شرقيّة وغربيّة» لكن الأب اعتقد أن علاقته بالسجناء المتنوعي الطوائف ستنسحب على المواطنين خارجاً. مشى في أزقة «الغربيّة»، وصادف سجيناً آخر عرفه سابقاً. نصحه الأخير بالمغادرة فوراً وعدم العودة «فالوضع لا يحتمِل». وعرف عيّا لاحقاً أنها «منطقة حساسة».
أصر الرجل على التقرب أكثر من رومية. ثمة ما يشده إلى المكان. كأن يداً تلتقط أطراف ثوب «الكهنوت» الأسود وتشده إلى السجن. ولكي يتجنب المزيد من «الأخطاء المهنيّة» درس «العمل الإجتماعي» في الجامعة اليسوعيّة في بيروت. درس مواد كثيرة وجديدة عليه، لم يعرفها قبلاً خلال دراسته الدينية حين كان في فرنسا وإيطاليا. ولكنه كان «وجودياً» بكل ما متّ إلى رومية بصلة. درس مادة الإقتصاد ففكر بكيفية صرف السجناء لمواردهم إلى جانب صرفهم البطيء للوقت. درس الإجتماع ففكر بكيفية تنظيم الروابط بين نزلاء السجن وتحويلها إلى «أسرة صغيرة». وبعد تخرجه، قرر بمساعدة مجموعة من «زملاء الدراسة» تأسيس جمعية «عدل ورحمة» لتكون مختصة بشؤون السجون والسجناء. كان ذلك في 1997. تقدمت الجمعية بطلب «علم وخبر» إلى وزارة الداخليّة والبلديات، التي كان يتولاها الوزير الأسبق، ميشال المر، حسب ما يذكر عيّا، وجوبه الطلب بالرفض المطلق. استمر السجن «قبواً» رغم انتهاء سنوات الحرب. وبعد حصولها على الترخيص في 1998، وضعت الجمعية طاولة صغيرة أمام بوابة السجن الشهيرة لتسوية أمور السجناء، محددةً 4 جوانب لعملها: النفسي، الحقوقي، المادي، والاجتماعي. اليوم، يصعب على زائر رومية التصديق أن «المبنى» الأزرق الصغير، القرميدي، انبثق عن طاولة. تنشط خليّة نحل بداخله، وخصوصاً المولجين «التعامل مع أقارب السجناء الجدد».
رأى الأب كل شيء في رومية. حتى مبنيا الموقوفين والأحداث كبرا أمام عينيه. فقد كان السجن عبارة عن مبنى المحكومين وحسب. صار الحبس كبيراً بعد الحرب لكن أحداً من مجرميها لم يدخله، وتلك مفارقة لا يفهمها الأب. لا يدعي أنه يعرف السجن أكثر من غيره، لكنه يرفض أن يكون مجرد مبنى تحرسه الدولة. يجب أن يكون مؤسسةً عقابية متزنة لا جحيماً كما هي حاله: صورةً درامية عن الخارج. داخل تلك الزنازين الضخمة عرف عيّا الغني والفقير، «المدعوم» و«غير المدعوم»، السجين الاجتماعي و«المقطوع من شجرة». علمته تجربته في السجن أن يبدي تعاطفاً مضاعفاً مع السجين غير اللبناني، لأنه «مارماطون» السجناء الآخرين. قوة السجين في تلك الغابة التي يجتمع فيها الموقوف مع المحكوم، و «تيما» مع «أبو الرعب»، مستمدة من عناصر أربعة: الحالة المادية لشراء السجائر والنزلاء الآخرين، «الواسطة» وحجمها مع رجال الأمن، البنية الجسدية القوية لتجنب التحول إلى «أرنب»، وآخرها «التهمة» التي يدخل بسببها السجين إلى رومية. فإذا كان النزيل الجديد «قد اغتصب ابنته» أو «تعامل مع اسرائيل» يكون في أسفل الهرم. أما إذا كان مثلياً، كـ «تيما»، فسيكون وضعه «قاسياً». في المحصلة، الأب يفهم تعقيدات السجن ويتعامل معه على هذا الأساس. يسمع كلاماً كثيراً في البداية من الوافدين الجدد، لكنه مقتنع بأن «تجربته الطويلة» تخوله التعامل بدقة مع الموضوع، مذكراً بأنه لم يغادر السجن طوال فترة «الانتفاضة الأخيرة». يحلو له أن يسميها الانتفاضة، ويأسف لأنه غير قادر على مساعدة السجناء أكثر من ذلك، فهم «يتوقعون الكثير في البداية، ولا يعرفون حجم امكانات الجمعية».
اليوم، يرى عيّا أن «اللولب» (المبنى س) هو أخطر المباني. يجمعون الموقوفين والمحكومين فوق بعضهم. تكتظ الغرف بيأس المحكومين وقلق منتظري الأحكام. ولا حلول. آمر السجن السابق، العقيد غابي خوري، برأيه، كان «أسوأ» من مر. فقد ظن بحزمه أنه «يضبط» السجن، فكان الإنفجار. يعتقد الأب أن وجود وزير مدني كزياد بارود، شجع السجناء على المطالبة بحقوقهم. في النهاية المسؤولية ليست على بارود ولا على غيره. المسؤولية تاريخية، ولا يمكن لوم السجين على خروجه من ثيابه إذا أخرجوا روحه منه ولم يعطوه شيئاً.



لم يتغير الكثير في السجن المركزي لرومية منذ 1991 وحتى 2011. برأي الأب هادي عيّا، الحياة الاجتماعية ما زالت على حالها. السجناء ما زالوا ضحايا اهمال الدولة، رغم «الضجيج» الذي سببه الإعلام أخيراً. وفي هذه الفترة تحديداً، تقلصت الزحمة إلى 3500 نزيل، بعدما وصلت إلى 5 آلاف في العام الفائت، وذلك بسبب توقف المعنيين عن نقل المزيد من السجناء إلى رومية، ما سبب «اكتظاظاً» مرعباً في السجون الأخرى. يذكر عيّا أن عدد السجناء في 1991، كان 900 فقط