ولدت حركة الاحتجاجات الشعبية العربية في المناطق الأشد فقراً، أي تلك الريفية. هذا ما تشهد به مدينتا سيدي بوزيد ودرعا. وحتى في البلدان التي شهدت تزامناً في اندلاع الثورات في كل مناطقها، مثل مصر واليمن، بينما لم يغطِّ الإعلام سوى تحركاتها الشعبية في العواصم والمدن، مثّل النازحون من الأرياف الخزان البشري الأساسي للتظاهرات وللمسيرات الشعبية.أولئك الأحرار هم الذين طردهم الفقر والحرمان من قراهم النائية، في ظلّ سياسات الإهمال المتعمدة التي مارستها جميع الحكومات العربية، ولا سيما تلك التي اعتنقت المذهب النيوليبرالي وجعلت منه دين الدولة الحقيقي.
قد يعتقد البعض أن إهمال الريف جاء صدفة، أو نتيجة لممارسات اقتصادية اجتماعية تجعل من المدن المحور الأساسي للحركة الاقتصادية والسياسية والثقافية. لكن الواقع أشد مرارة: فهناك العديد من المحللين الذين يعتقدون أن أحد الأسباب الرئيسية لإفراغ الريف هو وضع الأغنياء والقيّمين على الدولة والحكومات أيديهم على ما بقي من أراض زراعية، وتحويلها إلى استثمارات عقارية، أي إلى سلعة لا قيمة إنتاجية لها.
يملك الأثرياء في بلادنا حالياً الأكثرية الشاسعة من الأراضي، وتبلغ معدلات سوء توزيع الأراضي بين المواطنين، حسب مقياس «جيني» الدولي، أعلى مستوياتها في بلدان العرب التي لم تنتشر فيها ملكيات الأراضي الخاصة إلا بعد انتهاء الحكم العثماني وانتقال السلطة إلى يد المستعمر وأعوانه المحليين.
لن ينتعش القطاع الزراعي، ولن ينجح وتعود الحياة إلى الأرياف وتتقلص دائرة الفقر إلا إذا أُعيد توزيع الأراضي على من يحرثها. هذا هو التحدي الرئيسي للثورات العربية، هو نفسه التحدي الذي لم ننجح فيه عندما «تحررنا» من الاستعمار.