توفيت ف.غ. في 14 آذار 2009. لا علاقة لتاريخ الوفاة بأي حدث سياسي. لكنه كان بداية سجال قضائي واسع. السيدة التي توفيت في سويسرا كانت قد نقلت نفوسها من مسلمة سنية إلى مذهب اللاتين. المشكلة ليست في تغيير المذهب، فـ«حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
المادة التاسعة من الدستور اللبناني واضحة إلى حدٍّ كبير، رغم «الالتباس» اللغوي، في تأدية الدولة نفسها، لا مواطنيها، «فروض الإجلال لله تعالى». وفقاً لقانونيين متابعين، هذه الجملة أضيفت «كي لا يُعَدّ لبنان دولة علمانية». ذلك لا ينفي إطلاقاً «حرية اللبنانيين بالانتقال من دين إلى آخر»، كما يقول وزير الداخلية السابق زياد بارود. حرية المعتقد «مقدسة» في الدستور. إذاً، أين «مشكلة» المواطنة «السُنيّة ـــــ اللاتينيّة»؟ الشيطان يكمن في تفاصيل «الأحوال الشخصية».
الأمور أسهل في سويسرا نظرياً. التدقيق في «طوائف» الناس هناك ـــــ نظرياً أيضاً ـــــ محدود. على هذا الأساس، اتجهت ف.غ. إلى القنصلية اللبنانية في سويسرا، وبدلت مذهبها من مسلمة سنيّة إلى لاتينية، وذلك مثبت في محضر رقم 1021/2007 في سفارة لبنان في سويسرا. أصبحت المعاملة رسمية، بناءً على إحالة وزير الداخلية والبلديات بتاريخ 26 حزيران 2007، المتضمنة الموافقة على معاملة تبديل مذهب السيدة المسجلة في ميناء الحصن. كان وزير الداخلية آنذاك، أحمد فتفت، بالوكالة. لكن الوزير نفسه، عاد ليصدر إحالة جديدة، بتاريخ 18 أيلول، من العام نفسه، متضمنةً موافقته على القرار القنصلي رقم 12/07، الصادر في 29 آب، والآيل إلى إعادة مذهب السيدة، إلى ما كان عليه، أي مسلمة سنيّة. هذه «الإحالات» شبه روتينية، والوزراء لا يدققون فيها عادةً. الوزراء «مُعفَون» من هذه الإجراءات البيروقراطية. على مدى عامين «نام» مذهب السيدة التي توفيت في 14 آذار 2009. وفي 19 حزيران 2009، أصدر وزير الداخلية حينها زياد بارود، القرار رقم 1/787، بعد إعادة فتح القضية، بناءً «على استدعاء من المحامي ألكسندر نجار وكيل السيدة»، كما يؤكد الوزير السابق، داحضاً «الشائعات» التي طالته من أقارب السيدة، والتي تحدثت «عن صداقة تربطه بنجار».
فقد تبين لبارود أن القرار القنصلي 12/07 القاضي بإعادة السيدة إلى مذهبها الأساسي (مسلمة سنية)، صدر «من دون أن تتقدم صاحبة العلاقة باستدعاء تطلب فيه ذلك»، والقرار «لم يشر في حيثياته إلى ما يبرر اتخاذ مثل هذا القرار». وبما أن أصول تغيير الدين والمذهب هي تلك التي نصت عليها المادتان 41 و42 من قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية الصادر في 27 كانون الأول 1951، وبما أن قرار الإدارة طلب تبديل المذهب أو الدين المستوفي الشروط هو قرار فردي صرف ويقتصر فيه دور الإدارة على التثبت من استيفاء الشروط المفروضة قانوناً، وهذا ما كان موجوداً في حالة ف.غ. «بالإحالة الصادرة بتاريخ 26 حزيران 2007، التي قضت بالموافقة على إبدال دين ف.غ.، ما يشكل موافقة نهائية لا يجوز قانوناً الرجوع عنها، باعتبار أن المستدعية قد اكتسبت حقاً لا يمكن تجريدها منه بقرار إداري لاحق، حيث لا يسع الإدارة أن تبطل محضر إبدال دين إلا بناءً على قرار قضائي يصدر بناءً على مراجعة يتقدم بها المتضرر، وإلا انطوى على عمل الإدارة على مسّ بحرية المعتقد، وتالياً تعرض للحقوق الأساسية للفرد، المصونة في الدستور». هكذا أبطل بارود القرار القنصلي الثاني، وأبقى قراره الأول، فألغى الإحالة رقم 840/م.ع. بتاريخ 7 تموز 2007، وأبقى العمل قائماً بمحضر إبدال المذهب الأول، المنفذ بموافقة الوزير فتفت. وتالياً، شطبت كل الوقوعات المنفذة قبل قرار الوزير، استناداً إلى الإحالة الملغاة، وعادت قيود ف.غ. لاتينية.
لم تنته القصة هنا. توجه السفير الأسبق، عبد الرحمن الصلح، لمقابلة بارود، بوصفه أحد أقارب السيدة، وبوصفه أحد المتضررين من تبديل مذهبها. حدث ذلك في 12 آب 2009. وحين علم الوزير بارود بوجود «نزاع قضائي» في الموضوع لم يكن مبلغاً إلى الوزارة سابقاً، راجع مجلس شورى الدولة، الذي أوصى بقرار لافت: «تجميد القيود حتى بتّ النزاع القضائي». يعني ذلك أن ف.غ. بعد مماتها أصبحت مواطنة بلا مذهب، ريثما يحدد القضاء مذهبها. وتبين لاحقاً، أن القضايا عالقة قضائياً، قبل قراري سويسرا الشهيرين، وهناك تداخل في القضايا بين محكمة التمييز، المحكمة الجزائية، والمحكمة الشرعية، وفي مثل هذه الحالة، يمكن المتضررين اللجوء إلى «محكمة حل الخلافات» لتحديد الاختصاص، وتأكيد كونه سلبياً أو إيجابياً في علاقته مع كل من المحاكم المذكورة. وبناءً على تلك التوصية من «شورى الدولة»، اتخذ وزير الداخلية قراراً وضع بموجبه إشارة احترازية على قيد صاحبة العلاقة وجمّد بموجبه قراره السابق تاريخ 19 حزيران 2009 «وذلك لحين بتّ النزاع القضائي العالق بين الفرقاء أمام المحاكم»، حاظراً تسجيل أو شطب أية وقوعات أو إعطاء أي مستند لأي من الفريقين. وشرح قرار «تجميد القيود» التفاصيل الخاصة بالنزاع القضائي كالآتي: «بما أن نزاعاً قضائياً لا يزال عالقاً في الموضوع المذكور أعلاه، وتلافياً لأي تأويل يضع الإدارة في موقف الخصم لأي فريق». وقانونياً، يحمي هذا القرار (1247/1) حقوق المتخاصمين، بحيث لا ينشأ واقع قانوني أو إجرائي قد يتنافى مع ما سيصدر بنتيجة الدعاوى القضائية.
حتى الآن، وفقاً لقضاة شورى الدولة، يعد وجود «إشارة احترازية وتجميد القيود في محله القانوني ويشكل موقفاً حيادياً للإدارة التي لا يجوز أن تدخل طرفاً في نزاع بين فريقين رفعاه إلى القضاء». ولا يحق لأحد التصرف بأملاك ف.غ. (الكثيرة) لا المحامي نجار، ولا أقارب السيدة، بانتظار حسم القضاء للملف. وفي هذه الحالة، «انتصر» الخيار القضائي، على «الحلول اللبنانية» التقليدية بالدرجة الأولى، وحافظ بارود على «حرية المعتقد» المكفولة في الدستور. لكن السفير الصلح، بقي «غير راضٍ» عن قرار بارود، متهماً إياه «بصداقة المحامي نجار»، ضارباً عرض الحائط بـ«استشارة مجلس شورى الدولة». لكن، بانتظار البت القضائي، ستبقى السيدة المتوفاة ف.غ. مواطنة لبنانية «حاف»، ولا مذهب لها.



القرار 1247/1: «تجميد القيود»

أكد الوزير زياد بارود أنه لم يكن على علمٍ بوجود نزاع قضائي سابق، للقرار القنصلي 12/07، مدعماً وجهة نظره باستشارة قانونية من «مجلس شورى الدولة» لجأ إليها فور علمه بوجود نزاع قضائي، في قضية ف.غ. التي جمد الوزير قيودها بعد «علمه بالنزاع القضائي» في 2009. ومن جهته، يقول السفير السابق، عبد الرحمن الصلح «قريب السيدة» وخصم محاميها ألكسندر نجار، إن «التلاعب» بقيود ف.غ. بدأ قبل مجيء الوزير بارود إلى وزارة الداخلية، مستنداً إلى «تقرير للتفتيش المركزي» يؤكد أن «ف.غ. قدمت في شباط 2007 إلى دائرة النفوس في بيروت برفقة المحامي نجار، لتنفيذ معاملة إبدال دين، من سنية إلى لاتين، مبرزةً إخراج قيد رسمي، لكنها كانت في حالة من عدم التوازن». وأكد تقرير التفتيش أن السيدة حضرت مرتين إلى دائرة النفوس، ولم تجب عن أسئلة مدير الدائرة «قبل أن تبدل دينها في الخارج». إلى ذلك، يؤكد الصلح وجود النزاع القضائي، مستنداً إلى «قرار للمحكمة الشرعية بالحجر على ف.غ. منذ عام 2000»، علماً بأن بارود «جمد القيود ريثما يبت القضاء القضايا العالقة».