بعد تحقيقات دامت أكثر من 8 أشهر، علمت «الأخبار» أن النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة أصدرت أخيراً مطالعتها في الشكوى المقدمة من الدكتورة ليلى بركات ضد المدير العام لوزارة الثقافة عمر حلبلب، في شأن المخالفات التي رافقت مشروع «بيروت عاصمة عالمية للكتاب ـــــ 2009».وكان لافتاً، في المطالعة، تأكيد كثير مما جاء في كتاب «الفساد» للمدّعية بركات، والذي مضى على صدوره نحو 5 أشهر. وكان القاضي مروان عبّود قد استمع إلى إفادة المدّعية بصفتها منسقة للمشروع، إضافة إلى كونها عضواً في اللجنة التنفيذية فيه، وإلى إفادة المدّعى عليه بصفته مديراً عاماً لوزارة الثقافة وعضواً في اللجنة المذكورة.
ادّعاء النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة، الذي كان البعض يتوقع عدم حصوله على غرار كثير من ملفات الفساد التي تطوى وتحفظ، فاجأ كثيرين من المتابعين للقضية، خصوصاً لناحية الاتهامات الصريحة والموثّقة ضد حلبلب وعدد من موظفي الوزارة والعاملين في المشروع، علماً أن قرينة البراءة تظل قائمة حتى تقول المحكمة كلمتها النهائية.
في المخالفات، تبيّن للنيابة العامة، أن أموال المشروع أموال عمومية لكونها تتألف بمعظمها من مساهمات مقدّمة من الدولة اللبنانية (وزارة الثقافة) بقيمة 7 مليارات ليرة لبنانية، ومساهمة أخرى من بلدية بيروت بقيمة 1.5 مليار ليرة. وحيث إنه بدلاً من إخضاع هذه الأموال لأحكام قانون المحاسبة العمومية، والضوابط المحددة فيه، أُخضعت لنظام خاص أقرّ بمراسيم عادية وقرارات وزارية تخالف أحكام القانون، ولذلك فإن حلبلب يكون مسؤولاً عن هذه المخالفة، وتحديداً لناحية عدم لفت نظر الوزير إليها في معرض إعداد المشروع وتنفيذه.
كذلك ثبت للنيابة العامة، بعد الاطلاع على مستندات الملف، أن أحد الموظفين (تتحفظ الأخبار عن ذكر اسمه) التابعين للمديرية العامة للثقافة، كان قد تقدّم بطلب لشراء الكتب لمراكز المطالعة والتنشيط الثقافي، مقترحاً شراءها من إحدى المؤسسات، مع أن قيمتها هي 41282 دولاراً أميركياً، وهذا المبلغ، بحسب قانون المحاسبة العمومية، يخضع لأصول الصفقات العمومية التي تضمن المساواة بين العارضين الذين يتنافسون على إعطاء السعر الأدنى. وفي تفاصيل هذه المخالفة، علمت «الأخبار» أن من بين مجموعات الكتب المُشار إليها، مجموعة «سلسلة أساطين الفلسفة الحديثة والمعاصرة» وسعرها 60دولاراً في المؤسسة المذكورة، فيما سعرها في السوق 25 دولاراً فقط. وبرأي النيابة العامة، فإن هذه المخالفة تندرج تحت عنوان «إكساب أو محاولة إكساب الأشخاص المتعاقدين مع الإدارة ربحاً غير مشروع على حسابها»، والتي يُعاقب عليها وفقاً لنص المادة 60 من قانون ديوان المحاسبة. أما لناحية الاتهام، فقد وُجّه إلى الموظف المُشار إليه إضافة إلى حلبلب، لكون الأخير تبنى عملياً مضمون العرض. يُذكر هنا أن النيابة العامة كانت صارمة في هذا البند من ادّعائها، إذ رأت أنه لا يُردّ على نسبة هذه المخالفة للموظفين المختصين بأنها محاولة لم تقترن بالتنفيذ، طالما أن اللجنة التنفيذية قد رفضتها «لأن القانون يأخذ بالمحاولة ويضعها موضع المخالفة، خصوصاً إذا كانت قد حالت دون تنفيذها أسباب خارجة عن إرادة منفذها».
وثمة مخالفة أخرى، مميزة لناحية سهولة ملاحظتها، فالمدير حلبلب تقّدم بعدد من المشاريع إلى اللجنة التنفيذية، منها مشروع استحداث مركز كتب الأطفال في العالم العربي، البالغة تكلفته 105000 دولار. وتفصيلات مشروع «الأطفال» كالآتي: ترميم ودهان الطابق الأرضي في الوزارة بمبلغ 30000 دولار، شراء رفوف وطاولات وكراس بـ50000 دولار، بينما خصص لشراء الكتب، وهو عنوان المشروع الأساسي، 25000 دولار فقط! وفضلاً عن «نقص الدقة، والغموض الذي يُسهّل التلاعب وإلحاق الضرر بالمال العام»، لم يتوضح للنيابة العامة الإطار الذي يمكن بموجبه شخصاً أن يكون مستفيداً من مشروع، وأن يكون هو، في الوقت نفسه، مقرراً في لجنته التنفيذية أو مديراً له.
لم تنته المخالفات بعد، لكن لا مجال لذكرها كلها بالتفصيل، ولذلك نكتفي بذكر بعضها، ومنها: مبلغ 22000 دولار لإنتاج أغنية ختام الحفل، سفر المدير العام إلى ألمانيا على حساب المشروع ما اقتضى ملاحقته سنداً إلى أحكام المواد 60 و 61 من قانون ديوان المحاسبة، إسناد «وظائف خطيرة» لا يمكن إسنادها لموظف متقاعد، إضافة إلى ارتكابه مخالفة تقاضي تعويضات من مصدرين مختلفين.
وبناءً على كل ما ورد، قررت النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة الادّعاء وإحالة الملف كاملاً إلى الديوان، والطلب منه عدم إبراء الذمّة قبل بت النقاط المثارة في المطالعة.
إلى هنا يكون قضاة النيابة قد اتمّوا عملهم، وخرجوا بمطالعة «تُشرف الجسم القضائي، وتثبت أنه لا يزال في لبنان قضاة لا يأبهون بالضغوط السياسية وسواها»، بحسب أحد القانونيين المخضرمين المتابعين للقضية، لكنه حذّر من «ضغوط سياسية في الملف، بغية تجميده لدى الديوان وعدم إحالته إلى المحكمة، وهذا في حد ذاته إدانة للمدّعى عليهم، أقله معنوياً، لأن الواثق من براءته لا يُدخل السياسة في عمل القضاء». ورأى المصدر «اننا، اليوم، أمام قضية رأي عام، وهي برسم كل المسؤولين الذين لا ينفكون يتشدقون بضرورة مكافحة الفساد، ها هي أمامهم ولا تحتاج منهم إلا الابتعاد عنها وتركها للقضاء، فقد آن للمواطن اللبناني أن يعرف كيف تنهب أمواله، وأن يرى كيف يحاسب ناهبوها». ويختم القانوني مؤكداً أن «الفساد ليس حكراً على وزارة دون أخرى، فهو سرطان تفشّى في كل الوزرات والإدارات، لكن في وزارة الثقافة خرج من يفضح ما يحصل، فهل يخرج آخرون من سائر الوزارات، أم تكون بيروت وللأبد، عاصمة عالمية للفساد؟».
يُذكر أن «الأخبار» اتصلت بكل من حلبلب وبركات للاستماع إلى رأيهما بالمستجدات القضائية في القضية، فتحفّظا عن التصريح لأنهما وقعا تعهداً أمام القضاء بعدم إثارة الموضوع في الإعلام.



الوزير يحيل «والتفتيش» يعتذر

قبل أن تصدر النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة مطالعتها، كانت هيئة التفتيش المركزي، التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، قد نفضت يدها من ملف مشروع «بيروت عاصمة عالمية للكتاب - 2009». فقد حصلت «الأخبار» على رسالة موجّهة من رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عوّاد إلى وزارة الثقافة، يُعلن فيها الأخير «تعذّر» النظر في القضية، لأن «نفقات المشروع تمت تغطيتها بموجب نقل اعتماد من احتياطي الموازنة إلى جهات خاصة، إذ يكفي في هذه الحالة أن يُرصد الاعتماد حتى يمكن صرفه وفق القانون، دون أن يكون للتفتيش أي حق بمراقبة صحة الإنفاق، لكنه يبقى خاضعاً لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة». هذه الرسالة، التي تحمل رقم الصادر 1877/ص2، جاءت رداً على رسالة من وزير الثقافة السابق سليم وردة، تحمل الرقم الصادر 2011/484، التي طلب فيها التحقيق بالقضية، قائلاً فيها: «إن التفتيش لا يحتاج إلى إحالة من الوزير لمباشرة التحقيق، بل يتحرك تلقائياً بناءً على أي إخبار أو شكوى ترده».