لم تكن العلاقة بين المواطن والدولة على ما يرام يوماً. فشلت السنوات في تذويب الجليد بين الطرفين. المواطن في حالة سخط دائمة حيال تقصير الدولة في تأمين احتياجاته، أو تأدية واجباتها، رغم تماديه أحياناً في تحميلها وزر كل ما يصيبه. وهكذا، تحولت عبارة «وَيْنيّي الدولة» إلى «نكتة» يتبادلها اللبنانيون حين يواجهون أي مشكلة يشعرون بأن لدولتهم يداً فيها. وإذا اعتاد المواطن انقطاع الكهرباء والمياه وغلاء المعيشة وغيرها، إلا أنه ما زال يُصاب بالحنق الشديد حين يشعر بأن الدولة «تتبلّاه». أحد «المُبْتلين» سأل: هل أستطيع أن أرفع دعوى ضدّ الدولة؟ سؤالٌ من باب التهكم على حادثةٍ أصابته، وقد تكون أشبه بـ «ضَرْب مبكّل»... فللدولة «ضروبها» أيضاً. ليست الكاميرا الخفية، بل واقعٌ معيش يجعل صاحبه في حيرة من أمره بين الضحك المفرط تارةً، أو الغضب الشديد تارةً أخرى.ما حصل مع أسامة قد يكون نموذجاً لهذه الحالات. كان يوم أحد. تلقى اتصالاً من مخفر الغبيري. ظنّ بداية أن المتصل صديق أراد أن يمازحه، وخصوصاً أنه اختار أن يكون «مواطناً صالحاً» يفي بجميع التزاماته تجاه الدولة، كما أن الاتصال «جاء يوم الأحد». أبلغ المتصل أسامة بضرورة الحضور لتسلّم ستة قرارات جزائية متعلقة بستة محاضر ضبط سير. لحسن حظه، تذكر أنه ما زال يحتفظ بالإيصالات التي تؤكد تسديده جميع محاضر الضبط. ذهب إلى محكمة السير في بيروت، بثقة، ليكتشف أن ثلاثة من القرارات تعود إلى عام 2004! أثار الأمر غضبه، وخصوصاً أنه لم يكن قد اشترى السيارة في ذلك الوقت (اشتراها عام 2006 وباعها عام 2008). طلب منه القاضي أن يتقدم بطلب استرحام عند رئيس القلم. «شعرت بأنني أمام كرسي الاعتراف»، يعلّق أسامة. وكتب رئيس القلم أن أسامة يطلب الرحمة! أصرّ أسامة على الأخير لمنحه بعض الوقت لتقديم الأوراق التي تثبت أنه لم يكن هو مالك السيارة، إلا أن رئيس القلم حمّله مسؤولية دفع هذه المستحقات، بعد خفض المبلغ إلى حدّه الأدنى.
كانت النتيجة دفع أسامة مئتي ألف ليرة عن ذنب لم يرتكبه. وما زاد الطين بلّة أنه، لدى خروجه من المحكمة، وجد محضر ضبط على الواجهة الزجاجية الأمامية لسيارته، لعدم تمديد فترة ركن السيارة. هذه المرة، إنها لعنة «البارك ميتر». وحمّل مسؤول قضائي أسامة مسؤولية ما حدث معه، قائلاً إن «المواطن يجهل القانون. كان عليه أن يصرّ على عدم الدفع والاستفسار من القاضي». لكن هل المطلوب من جميع المواطنين أن يكونوا طلبة حقوق؟ وعن سبب تأخر تبليغ الشخص بوجود قرارات جزائية بحقه، يُرجع المصدر السبب إلى «غياب المكننة وقلة عدد الموظفين»، لافتاً إلى أنه منذ عام 2001، «حرّرت محكمة السير في بيروت تسعمئة ألف محضر ضبط».
أسامة مجرد «عيّنة» بين كثيرين جُلبوا إلى المحكمة من غير ذنب. المشكلة كما يفنّدها المسؤول القضائي تتمثل في بيع كثير من اللبنانيين سياراتهم بالوكالة عند أي كاتب عدل، ما يعني عدم تسجيل السيارة باسم المالك الجديد. عندئذٍ، تضاف أي مخالفة يرتكبها المشتري الجديد إلى سجّل السيارة، وتالياً، يتحمل مسؤوليتها المالك القديم لأن السيارة لا تزال باسمه. لكن المحكمة تعمل اليوم على الحد من هذه المشاكل. فليس على «البريء» من المخالفة إلا أن يعترض ويقدّم طلب استرحام، ويجلب الأوراق التي تثبت بيعه السيارة بالوكالة.
للسير قصصه. لكن للكهرباء حصة الأسد من «ضروب» الدولة. «الكهرباء» أيضاً، تنافس على «نصب الفخاخ» للمواطنين. كان أوجين يعمل على حاسوبه حين انقطعت الكهرباء فجأة في غير وقتها. سأل جيرانه، ليكتشف أن الكهرباء قرّرت أن تقاطعه وحده. قال في نفسه: «إنه عطلٌ ما على الأرجح». هاتف شركة الكهرباء ليبلّغ بفاتورة تعود إلى عام 2001 لم تسدّد قيمتها بعد. المضحك أنه لم يكن قد مضى على شراء أوجين لمنزله سنتين فقط، ولم يبلّغ بوجود متأخرات لدى تسجيل البيت في البلدية. حادثة ليست فريدة من نوعها لكثرة ما تتنقل بين منازل اللبنانيين، الذين يضطرون إلى الدفع لإنقاذ أنفسهم من الظلام. ألا يكفي التقنين؟ ويقول جابي كهرباء متقاعد إن المسألة ببساطة مرتبطة بـ«مدى نشاط الموظف الذي يفضل الاسترخاء في بعض الأحيان، فتتكدس الأوراق والفواتير لسنوات». ورداً على لوم الناس للجابي في أغلب الأحيان، الذي قد «يتناسى» المرور ببعض المنازل لكسب مزيد من ساعات الراحة، يوضح أن ما يحصل غالباً هو أن الجابي «قد لا يجد جميع الناس في بيوتهم، حين يمر في جولته الأولى على المنازل الموكلة إليه لاستحصال الفواتير، فيترك على بابهم ورقة تحدد موعداً جديداً لقدومه، لكنه لا يلتزم به».
وسخر أحد المواطنين، «المبتلين» بحوادث مشابهة أيضاً من الواقع. برأيه «الدولة تصرّ على جعل المواطن غير صالح». فقصص مماثلة «يمكن أن تحلّ من خلال معارف أو رشى»، وطبعاً من دون أن تستغرق الوقت القانوني الطويل. في المقابل، تأخذ الدولة على «مواطنها» التفافه عليها، ففي النهاية القانون هو القانون وهو وضع أصلاً لكي ينفذ، وإن لم يعجب الكثيرين، فإن تطبيقه يبقى أفضل بكثير من عدمه. لكن، ماذا عن الحوادث غير المبررة؟ هل من يحاسب «الدولة»؟ هنا يبقى سؤال واحد: «وَيْنيّي الدولة»؟



في انتظار «العدّاد»

اشترى محمد سعيد منزلاً وتقدم بطلب «عدّاد» لدى شركة الكهرباء. راجع الشركة مرات عدة لـ«بطئها في تلبية طلبه». مرّ الوقت حتى فوجئ بجلب الجابي فاتورة تحمل اسمه، من دون أن تكون الشركة قد وضعت العداد! اكتشف أن الشركة وضعته «في شقة أخرى غير شقته». لكنه «أكل الضرب»، إذ اضطر إلى الدفع مرات عدة، قبل أن يسوّى الأمر مع الشركة فيدفع «ساعة مقطوعية» بقيمة 15 ألف ليرة إلى حين تركيب عداده. فوجئ لاحقاً بفاتورة قيمتها مئة وثلاثين ألف ليرة لبنانية هي «فواتير ساعة»، عن الفترة التي كان يدفع فيها «مقطوعية». قدم طلب استرحام، وما زال ينتظر!