بقي أحمد من دون عمل بضع سنين. سنوات الدراسة التي «أهدرها» متخرج كلية الحقوق ليمارس مهنة المحاماة لم تشفع له لدى نقابة المحامين التي لم تسمح له بالانتساب إليها. طال انتظاره من دون أن يتحقق حلمه المهني فضاق ذرعاً، وقرر التحوّل نحو التجارة. افتتح «دكّانة سمانة» في طرابلس ليبدأ مشواراً من نوع آخر. تخلّى أحمد عن حلمٍ بات سراباً. ليس نادماً لأنه «مؤمن بقسمة الله ونصيبه»، لكنه يشعر بالأسى حيال كثيرين لا يزالون معلّقين بحبال الهواء في وطنٍ «لا يوفّر الحدّ الأدنى من الحياة حتى لأبنائه الأصليين، فكيف بالمجنّسين؟». حال أحمد تنسحب على ربى، متخرجة كلية الحقوق التي حلمت دوماً بالترافع أمام قضاة يعلو رأسهم ميزان العدل. ربى لم تتخلّ عن حلمها يوماً، لكنها اقتنعت بأنه سيبقى مجرد حلم من دون أن يتحقق. لذا اختارت خوض غمار التعليم في مدرسة خاصة في أحد أحياء طرابلس بعدما يئست من طول الانتظار.أحمد وربى محاميان مع وقف التنفيذ، تختصر حالهما حال عشرات آخرين غير قادرين على الانتساب الى نقابة المحامين ومزاولة المهنة. فنقابتا المحامين في بيروت وطرابلس ترفضان قبول انتساب اللبنانيين المجنّسين منذ أكثر من عشر سنوات، مخالفتين بذلك نص المادة السابعة من الدستور اللبناني التي تنص على أن «كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم». أضف إلى ذلك مخالفتها نص المادة الخامسة من قانون تنظيم مهنة المحاماة لجهة الشروط الواجب توافرها في الراغب بالانتساب إلى النقابة.
هذه التهمة التي يوجّهها حقوقيون للنقابة، يردّها محامون ونقباء سابقون في نقابتي محامي بيروت والشمال. فيرى بعضهم أن موقف النقابة صائب، فيما يلقي آخرون باللوم على وزارة الداخلية حيث يقبع ملف المجنّسين منذ نحو سبع سنوات.
اصطدمت نقابة المحامين في بيروت عام 2005 بأول محامٍ مجنّس يطلب الانتساب إلى النقابة، أي بعد مرور عشر سنوات على صدور مرسوم التجنيس الصادر عام 1994. يومها لقي الطلب اعتراضاً شديداً من مجلس النقابة في بيروت. أما الخلفيات فطائفية وسياسية، لا سيما أن مقدم الطلب المذكور من أصل سوري، كما أن طلبه جاء عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مع ما رافق تلك الحقبة من ردود فعل انتقامية وكيدية ضد السوريين. طُلب من مقدم الطلب التريّث لأن جنسيته قيد الطعن، ونُصح بالرجوع إلى وزارة الداخلية. منذ ذلك الحين، بدأت معاناة كثيرين أخطأوا التقدير يوم ظنّوا أن حيازتهم بطاقة الهوية في بلاد الأرز ومنحهم حق انتخاب نوّاب الأمة، يعني اعترافاً كاملاً بمواطنيتهم، وبالتالي معاملتهم وفق مبدأ المساواة مع باقي أبناء الوطن الأصليين.
موقف النقابة يومذاك، استند إلى اعتراض الرابطة المارونية عام 1998 على مرسوم التجنيس، حيث تقدمت بطلب الطعن فيه أمام مجلس شورى الدولة بذريعة أنه يخل بالتوازن الديموغرافي، فكانت النتيجة صدور قرار إعدادي عام 1999 بقبول الدعوى شكلاً، رغم عدم ثبوت صفة الرابطة المارونية، لكونها ليست المرجع الصالح لتمثيل المسيحيين. بعد ذلك، تقررت إحالة الملف إلى وزارة الداخلية لإعادة النظر فيه، فشُكّلت لجنة لدراسة الملف للتثبّت من شروط توافر الجنسية لدى الحاصلين عليها، تمهيداً لإعادته إلى مجلس شورى الدولة بعد الانتهاء منه. ملف التجنيس عالقٌ اليوم في وزارة الداخلية، لكن المجنّسين، بحسب القانون، يتمتعون بكل حقوق المواطنية في انتظار رأي وزارة الداخلية.
مرّت سبع سنوات على بدء المشكلة دون أن يُبذل أي جهد لإيجاد حلٍّ لها. حاول أصحاب الحق تحصيل حقٍ اعتقدوا بأنه لن يضيع إذا ما هم طالبوا به، فلجأوا إلى القضاء ثم قصدوا سياسيين. عرضوا مشكلتهم وغادروا على أمل إيجاد مخرج، لكن لم يتغير شيء. يئس بعضهم فترك المهنة بحثاً عن مصلحة أُخرى تقيه شرّ العوز، فيما كفر آخرون ببلدٍ انتخبوا نوّابه أكثر من مرّة فقرروا هجره.
لكن، وسط هؤلاء، بقي من لا يزال يعلّق الآمال على حبل خلاص قد يظهر فجأة، غير أن حبل الأمل المنشود لا يزال ضائعاً بين وزارة الداخلية ونقابة المحامين. تقاذف المسؤولية القائم لا يلغي حقيقة الظلم الذي تُنزله نقابة المحامين بعشرات الحقوقيين والمحامين الحاصلين على الجنسية اللبنانية بموجب مرسوم التجنيس الصادر عام 1994. فالمعاناة تُقسم إلى شقّين. الأول يطاول الشخص المجنّس منذ أكثر من عشر سنوات والحاصل على إجازة الحقوق اللبنانية لكنه ممنوع من ممارسة المهنة، وهم الأكثر عدداً. أما الشق الثاني، فيطاول «المحامي الأجنبي»، أي حامل الجنسية اللبنانية منذ أكثر من عشر سنوات، والحائز على شهادة الحقوق اللبنانية والمقيم في لبنان لكنه حاصل على إذن بممارسة المهنة من بلده الأم بعدما تعذر عليه دخول النقابة في لبنان. وليس هناك إحصاء دقيق لأعداد هؤلاء، لكن التقديرات تشير الى انهم يتراوحون بين بضع عشرات و400.
وتكمن المشكلة الأساسية في رأي نقابة المحامين أن جنسية هؤلاء لا تزال قيد النظر بانتظار بت الطعن. لكن يقابل هذا التبرير رأيٌ قانوني يقول إن الطعن لا يوقف تنفيذ المرسوم، وبالتالي من حق المجنسين التمتع بحقوق المواطنية الكاملة. وفي هذا السياق، يرى الحقوقيون المحرومون من ممارسة المهنة أن «نقابة المحامين المدافعة عن الحق والعدالة والإنصاف تُطبّق الظلم بالاستناد إلى حجج واهية»، بقولها إن الطعن يوقف مفعول المرسوم. ويتساءل هؤلاء: «لماذا يمنع المجنس من ممارسة هذه المهنة فيما مسموح له ممارسة كل المهن الباقية، وكيف يكون من يُشارك في انتخاب نوّاب الامة ويدخل السلك العسكري مشكوكاً في لبنانيته؟».
وسط النقاش السائد، خرج نقيب المحامين السابق في طرابلس فادي غنطوس باجتهاد رأى فيه كثيرون حلاً للمشكلة، ومفاده أن يُطلب من كل حقوقي مجنّس إحضار إفادة من وزارة الداخلية تُفيد بأن ملفّه غير مطعون فيه. تبنّت نقابة المحامين في بيروت الطرح فاعتُمد الطلب المستجد لقبول انتساب أي محام أو حقوقي مجنّس. غير أن ما كان يفترض أن يكون حلاً، كان في الواقع عقبة إضافية. فالطلب تعجيزي، لأن الملفات المفترض بتها تتخطى الـ150 ألفاً. يضاف إلى ذلك ما أُشيع من أنه إذا سُمح للمجنسين بدخول نقابة المحامين فإن عددهم سيصل الى الآلاف، وهو الأمر المنافي للواقع.
وفي هذا السياق، أكد وزير الداخلية السابق زياد بارود لـ«الأخبار» أن الوزارة أنهت دراسة معظم الملفات ووضعتها على أقراص مدمجة، وباتت، بالتالي، مراجعة أي ملف سهلة لا سيما أنه جرى تبويبها لجهة الأسباب الموجبة لسحب الجنسية. وأشار بارود إلى أن عدد الملفات المطعون في صحتها يبلغ بضعة آلاف، لافتاً إلى أنه تقدم بثلاثة مشاريع مراسيم إلى رئاسة مجلس الوزراء. وبالتالي، ورغم لا قانونية طلب الإفادة من الراغبين بالانتساب إلى النقابة، وبمعزل عن الجدل الدائر حولها، فقد صار بإمكان الراغبين الاستحصال عليها من وزارة الداخلية إذا كانت ضمن الملفات المنجزة.
من جهته، يرى نقيب المحامين في طرابلس بسام الداية في حديث الى «الأخبار» أن القضية «أكثر من محقة»، ويتساءل: «كيف لا تقبل النقابة لبنانيين مجنّسين ترشّح أحدهم للنيابة ودخل آخرون في قوى الأمن والجيش؟». تساؤل الداية يشير الى وقوفه إلى جانب هذه القضية، لكنه يلفت إلى مشكلة قد تجدّ إذا اتخذ وحده قرار قبول الحقوقيين المجنّسين، لأن هناك عهداً غير مكتوب بأن يكون الموقف موحداً بين نقابتي طرابلس وبيروت. كذلك يرى أنه في حال اتخاذ نقابة طرابس هذا القرار من دون نقابة بيروت، فإن نحو 400 محام مجنّس سيتقدمون بطلبات انتساب إلى النقابة في الشمال، علماً أنها غير قادرة وحدها على استيعاب هذا الكم من المحامين دفعة واحدة. ورأى الداية أن «المسؤولية الكبرى تتحملها وزارة الداخلية»، مشيراً إلى أن «الحل الأقل ضرراً يكون بإنجاز وزارة الداخلية دراسة هذا الملف لتُعطي إفادات لطالبيها بأن جنسياتهم لا إشكال عليها». إلا أن معنيين بالقضية يردون على الداية بالتساؤل: «لماذا يتخوّف مجلس نقابة طرابلس من الإقبال على نقابتهم فيما يمكنهم أن يُقيّدوا ذلك باختبارات القبول؟»، مشيرين الى أربعة فقط من أصل 213 حقوقياً لبنانياً تمكنوا من اجتياز اختبارات القبول في نقابة طرابلس أخيراً.
من جهته، يرفض نقيب المحامين السابق عصام خوري الخوض في هذا النقاش «الذي يُحسم داخل مجلس النقابة»، لكنه رأى أن الأجدى طرح السؤال بصيغة أخرى: «هل يُسمح لهؤلاء المعترضين بدخول سلك القضاء؟». تساؤل خوري يرد عليه محام مجنّس بالإشارة الى «مبدأ يقول إن من يستطيع الأكثر يستطيع الأقل، فكيف لا يكون بإمكان من ترشّح لمنصب نائب، يملك بيده السلطة التشريعية التي هي أعلى سلطة، دخول المراكز الأدنى؟».
النقيب السابق للمحامين أنطوان عيروت قال في حديث الى «الأخبار» إن موقف النقابة «لا غبار عليه»، لأن «الجنسية الممنوحة ليست نهائية. إذ إن هناك أشخاصاً سيشطبون إذا تبين أن شروط الجنسية غير متوافرة فيهم». ويلفت النقيب عيروت إلى أن النقابة «انطلقت في موقفها من حكم مجلس شورى الدولة الصادر عام 2003 الذي طلب إعادة النظر في كل الملفات». وعن طلب الإفادة من وزارة الداخلية الذي ألزمت نقابة المحامين كل مجنّس يطلب الانتساب إليها بإحضاره، يرى عيروت أنه «طلب قانوني مئة في المئة لرفع المسؤولية القانونية عن نقابة المحامين». موقف النقيب السابق عيروت ينسجم مع موقف اثنين من أعضاء مجلس النقابة في بيروت. فقد طرح أحد هؤلاء تساؤلاً مفاده: «إذا قُبِل دخول المحامي المجنّس، فماذا سيكون الوضع إذا رُفض تجنيسه بعد إعادة النظر؟». فيما يرى أصحاب القضية ان الحل حينها يكون، ببساطة، بإلغاء عضوية من تسحب جنسياتهم، لافتين الى أن هذا الموقف يجافي أدنى معايير العدالة والإنصاف ومخالف للدستور وميثاق حقوق الإنسان الدولي.
يشار إلى أن «الأخبار» اتصلت بنقيبة المحامين في بيروت أمل حداد منذ أكثر من أسبوع للوقوف على رأي النقابة في الجدال القائم، فطلبت إرسال نسخة عن الأسئلة للإجابة عنها، لكنها لم تُجب حتى موعد النشر.
يذكر أن مجلس النواب سبق أن أصدر القانون الرقم 106 تاريخ 22/6/199، المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 3/7/199 صفحة 1887، والذي أعفي بموجبه بعض المدرسين المتعاقدين في سبيل تثبيتهم في ملاك وزارة التربية، من شرط مرور عشر سنوات على اكتسابهم الجنسية اللبنانية. أي إن المجنسين المتعاقدين أُدخلوا إلى ملاك وزارة التربية حتى دون مرور عشر سنوات على اكتسابهم الجنسية على الرغم من الطعن في مرسوم التجنيس أمام مجلس شورى الدولة.



استنسابية واستثناءات

يتحدث حقوقيون مجنّسون عن تسويات طُبخت أدّت إلى دخول أربعة محامين مجنّسين بموجب مرسوم عام 1994 إلى نقابة المحامين. المعترضون رأووا في الاستنسابية الحاصلة استثناءً للقاعدة التي رفعتها النقابة لسنوات. فالمحامية ر.ر. المجنّسة بموجب المرسوم، سُمح لها بدخول نقابة المحامين في طرابلس بعد تدخلات سياسية من أحد نواب المنطقة. وتذرعت النقابة بأنه ما دامت جنسية المذكورة قيد الدرس ولا تملك جنسية أخرى، فمن المؤكد أن مجلس شورى الدولة لن يطعن في تجنيسها. كذلك، قُبل المحامي خ.ح.س. المكتوم القيد والمجنّس في النقابة لأسباب مجهولة بتصويت 5 أعضاء من أصل ستة في مجلس نقابة الشمال.
يشار إلى أنه يُفرض على المحامي المجنّس، الذي حصل على صفة المحاماة من بلده الأم، أن يستحصل على تسوية؛ إذ يجب أن يأخذ إذناً بالترافع بدعوى معينة من النقابة التابع لها. رسم الإذن المفروض كان محُدداً بـ30 ألف ليرة، لكنه رُفع في ما بعد إلى 400 ألف ليرة، وبالتالي هو مُجبر على دفع هذا الرسم في كل دعوى كالأجنبي. كذلك، غير مسموح له فتح مكتب، ولا يستفيد من التأمين الصحي أو الحصانة القضائية، ولا يشارك في انتخابات النقابة.