ليس ملف مغاور عدلون وحده الضائع في أدراج المديرية العامة للآثار، بل مفاتيحها أيضاً. ففي إطار زياراتهم التفقدية المتقطعة، أقفل أحد موفديها مدخل المغارة الرئيسية قبل خمس سنوات، وحملوا معهم المفتاح، لكنهم في زيارتهم الأخيرة، قبل أكثر من عام، اضطروا الى خلع البوابة لأنهم كانوا قد أضاعوا المفتاح. يستحضر أهالي عدلون واقعة مفتاح مغارتهم الضائع، لتقويم حجم الاهتمام الرسمي الضئيل بإرثهم الأثري، إذ تشير الوثائق الى أن عدلون، التي تتميز بموقعها المشرف على الساحل بين صيدا وصور، تحتوي على آثار يعود تاريخها إلى 150 الف سنة قبل الميلاد. وهذا ما تدل عليه أحجار الصوّان التي عُثر عليها داخل مغاورها، وأكبرها مغارة المجيدية. وبحسب تقرير المديرية عن المغارة فإن إنسان العصر الحجري الأول اتخذ منها مسكنا، حيث وُجدت داخلها قطع صوانية منحوتة هي اليوم معروضة في متحف ما قبل التاريخ في الجامعة اليسوعية في بيروت. فمسكن إنسان ما قبل التاريخ في المغارة ارّخه وبحث عنه الاب اليسوعي زيموفين قبل اكثر من مئة سنة، وتبين له ان المغارة سكنت على مراحل طويلة. وكان إلانسان القديم يستعملها للمأكل والمشرب والمبيت وترك في ارضها احجارها الصوانية المنحوتة. وتتميز احجار عدلون عن غيرها بطريقة صنعها، مما سمح لعلماء ما قبل التاريخ بإطلاق تسمية «حجر عدلون» على احجار صوانية تتبع هذه الطريقة في النحت اينما عثر عليها، ويعود تاريخها الى العصر الحجري الاوسط،. وهناك اعتقاد متوارث بين الأهالي بأن الماء الراشح من الصواعد والنوازل له قدرة شفائية كعلاج لدرّ الحليب للنساء المرضعات، لذا باتت تعرف باسم مغارة «أم البزاز». وعلى بعد أمتار من المجيدية ترتفع مغارة العلالية المؤلفة من طبقتين طبيعيتين من الصخر، وتضم بئراً منحوتة وحفراً دائرية أمام ثلاثة قبور وجلسة صخرية عبارة عن مقعدين متقابلين. هذه هي المغاور من الداخل، نقلاً عن الوثائق، إلا أنها تختلف كثيراً على الأرض. فمن يقرر أن يزور الموقع، الذي استحدثت له المديرية لافتة، قد لا يجده. الأبنية السكنية والورش الصناعية تستبيح المكان. ملامح مغارة المجيدية تظهر بصعوبة من بينها، وليس هناك طريق خاصة للوصول اليها. أما الوصول الى المغارة العلالية، فصعب جداً، رغم أنها ظاهرة للعيان على رأس تلة. فالطريق إليها تمر بين عشرات الأبنية السكنية والحقول الزراعية وحتى المزارع الصغيرة التي تربَّى فيها المواشي والدواجن. ولأن لكل مرفق، شبكته الخاصة به لتصريف المياه المبتذلة بين الصخور، فالرائحة الكريهة تسيطر على الطريق.
لكن من شوّه محيط المغاور ومنع الوصول اليها؟ علماً بأن سفح الجبل الصخري الذي يضم المغارتين وما بينهما، البالغة مساحته 140 الف متر، استملكته المديرية منذ عقود؟ يشير متيرك الذي كلّفته البلدية وضع دراسة لتأهيل الموقع، إلى أن سبب التشويه يعود الى البناء العشوائي في محيطه، الجاري منذ مطلع السبعينيات حتى مطلع العام الجاري. فقد سجلت البلدية حوالى870 منشأة مخالفة، وسعت المجالس البلدية السابقة الى إزالتها واستملكت 16 منزلاً تقع على مدخل مغارة المجيدية الرئيسية وفي محيطها. والهدف من الاستملاك كان تأهيل الطريق المؤدي الى المغارة، إلا أن عاصفة التعدي على الأملاك العامة، التي ضربت الجنوب منذ شهر شباط الماضي، ألقت بظلها على آثار عدلون، وفيما لم يكن أصحاب المنازل الستة عشر، قد أخلوها، سُجل بناء حوالى 270 بيتاً مخالفاً، لا بل إن أصحاب المخالفات القديمة استفادوا من العاصفة ليضيفوا غرفاً وأسقفاً اليها، ويوسّعوا في محيطهم «باستصلاح» المزيد من الأراضي، وتحويلها الى حقول او البناء عليها.
ما الذي اتّخذته المديرية من إجراءات لحماية الموقع؟ يؤكد متيرك «أنها لم ترسل موفداً لتفقد التعديات منذ شباط الفائت. وزيارة المسؤولة عن المنطقة الأخيرة التي حصلت قبل اكثر من عام، كانت للتأكد من الأنباء التي وردتهم عن تصريف المياه المبتذلة في النواويس والمغاور».
عدلون اليوم منقسمة بشأن مصير مغاورها. بعض من أبناء البلدة يرون أنهم يعانون إهمالاً متعمداً من الدولة، فيما القسم الآخر معتدون على الآثار. لذا تسعى البلدية، بحسب العضو محمد غزالة، الى التواصل مع وزير الثقافة الجديد من جهة للإعداد لحملة إعلامية للإضاءة على قيمة عدلون ومواقعها تاريخياً وأثرياً بهدف توعية سكان القرية على قيمتها. ويقول غزالة «إن الدعم الفرنسي المنتظر لا يكفي من دون وضع خطة إنقاذ للموقع بالتعاون مع الأهالي والأجهزة الأمنية والمؤسسات الرسمية، بعد توفير الإمكانات المادية والتقنية المطلوبة. وكانت البلدية قد أنجزت دراسة تأهيلية تشمل استحداث ممرات الى المغاور وإضاءة وتوفير أدلّاء سياحيين وحراس، لكن تبقى الخطوات الأخرى كمناقشة المشروع مع المديرية العامة للآثار ليأتي العمل على الموقع المدرج مشتركاً».