الفرق شاسع بين هواء الضنية وهواء المدينة. لا يمكن أن يكون ثمة قاسم مشترك بين الاثنين: بين «هوا الضيعة» وبين حر مدن الإسمنت القاتل على الساحل. أي عابر سبيل قد يكتشف هذا الفارق، لحظة وصوله إلى حاجز الجيش اللبناني عند مفرق بلدة عشاش في قضاء زغرتا، متجهاً صعوداً صوب الضنية. هناك، سيشعر حتماً بنفحة باردة خفيفة تنقله إلى جرود الشمال، وهي التي لا تشبه أبداً الطقس الحار والرطوبة التي حملها معه من الساحل.ليس الطقس المعتدل وحده ما ينبّه الزائر إلى أنه عند «بوابة الضنية»، فاللافتة الحديدية الضخمة التي وضعها اتحاد البلديات، بعد حاجز الجيش بمسافة قليلة، والتي تحمل عبارة «الضنية الخضراء ترحب بكم»، هي ما يلفت النظر أيضاً. عبارة تتوضح أكثر برؤية بسطات باعة الخضر والفواكه التي تنتشر على جانبي الطريق الرئيسية التي تربط الضنية بطرابلس.
هذه الصورة تعكس واقعاً اقتصادياً ـــــ اجتماعياً عن قرى وبلدات الضنية الثماني والثلاثين، والتي يشكل القطاع الزراعي أحد أبرز موارد سكانها، خصوصاً خلال فصل الصيف، حيث تتحول إلى ما يشبه خلية نحل.
ما تشهده الضنية اليوم، وإن كان لافتاً، ليس جديداً. ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت الزراعة المورد الأساس لغالبية أهالي الضنية، بحسب المزارع محمد كنج من بلدة بقاعصفرين. غير أنه في فترة من الفترات، طرأ تطور لافت على الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأهالي المنطقة تمثل في الهجرة إلى الخارج مع بداية الحرب الأهلية، وميل كثيرين إلى التجارة والأعمال والمهن الحرة والوظائف في سنوات لاحقة.
إلا أن كل ذلك لم يمنع أهالي الضنية الذين بقوا من المحافظة على منطقتهم «منطقةً ذات طابع زراعي بامتياز، وإن هجرها الكثيرون واتسعت فيها الرقعة العمرانية»، يقول رئيس مصلحة الزراعة في الشمال معن جمال، ابن بلدة بخعون كبرى بلدات الضنية. يفصّل جمال الواقع بالأرقام، فيشير إلى أن «ما بين 39 و42% من أهالي الضنية يعتاشون من الزراعة أو يستفيدون منها، وأن هذه النسبة تتفاوت بين بلدة وأخرى، إلا أنها ترتفع قليلاً في جرد المنطقة التي توسعت فيها رقعة الأراضي الزراعية».
ولئن حافظت الضنية إلى حدّ ما على «صيتها» منطقةً زراعية، فقد طرأت تغييرات عدّة على هذا الواقع، أهمها «تراجع اليد العاملة المحلية في الزراعة في المنطقة، الأمر الذي يدفع كبار المزارعين إلى الاستعانة بعمال أجانب عندما «يهجم» الموسم (ولهذا السبب، يتكاثر عدد العمال السوريين في الضنية صيفاً)، وتراجع مساحة الأراضي المزروعة بالتفاح والإجاص لمصلحة اللوزيات من دراق ومشمش وخوخ وغيره، فضلاً عن تقدم زراعة الخضر على ما عداها كما هي الحال في جردي النجاص ومربين»، يتابع جمال.
الدافع إلى استبدال أنواع معينة من الزراعات بأخرى هو «التنويع في الأصناف، وعدم حصرها بصنفٍ واحد»، يضيف جمال. أما السبب؟ يجيب المزارع أحمد طالب في جرد النجاص: «إذا ضُرب أحدهم بصنف معين، يعوّض بالصنف الآخر».
في الجرد المذكور، تعمل أكثر من 500 عائلة صيفاً في أراضيه الزراعية التي عملوا على استصلاحها بأيديهم. وتعتمد في ري مزروعاتها على مياه البرك الترابية التي يجرّونها بقساطل تمتد عدة كيلومترات من ثلاجات القرنة السوداء. في الجرد، تتوزع أنواع الزراعات بين أشجار الفاكهة كالتفاح والإجاص، والخضر كاللوبياء والخيار والبندورة والخس والبصل وغيرها. أما تصريف المحصول فينقسم قسمين: تصريف محلي وآخر خارجي، حيث يودع المحصول في مشاغل التوضيب تمهيداً لتصديره إلى الخارج.
ولا تقتصر هذه «الاستراتيجية» الزراعية على هذين النوعين فقط، إذ إن بعض أهل الضنية يبيع قسماً كبيراً من منتجاته الزراعية داخل المنطقة، من غير أن يضطروا إلى نقلها إلى سوق الخضر الرئيسي في طرابلس أو إلى بيروت، وذلك من خلال «نشرهم» بسطات الخضر والفواكه على طول الطريق الرئيسية، وتحديداً أيام الجمعة والسبت والأحد من كل أسبوع. والأمثلة كثيرة على هذا النوع من التصريف. أحمد شوك، من بلدة بقرصونا في جرد الضنية، أحد هؤلاء البائعين الجوالين، يشير إلى أن «أكثر من ثلاثة أرباع الموسم أبيعه هنا في الضيعة للمصطافين، تحديداً الخيار والبندورة واللوبياء فضلاً عن الفواكه»، لافتاً إلى أن ذلك «يوفّر عليّ أجرة نقل البضائع والقومسيون للتاجر، وبيخليني إربح كم ليرة زيادة حتى إتموّن للشتوية وإدفع رسوم تسجيل أولادي في المدارس».