قصر العدل في بعبدا لا يهدأ، حتى أيام العطلة القضائية. هنا لا تمتاز أيام الإجازة عن العمل. تتراكم الملفات وتتكدس، فيما يتوزّع القضاة المناوبون همّ العبء المستمر. في هذا القصر المتصدع، دورة العمل طبيعية هذه الأيام، ومثلها الإجراءات الأمنية. تدخله فيشدّ انتباهك سماع نقر طرْقات عنيفة متسارعة تترافق مع صدى صوت عميق. تحاول أن تصغي أكثر، فيأتيك الجواب من دون عناء: «الكهرباء مجدداً». تفهم أن أحدهم علق في المصعد من جديد.
ماذا عن كهرباء المولّد؟ سؤال يعطى عليه احتمالان: ليس فيه وقود، أو معطل ويحتاج الى صيانة. الحال هكذا منذ أيام. يُحتجز العالق في المصعد لدقائق معدودة، قبل أن يُفتح له الباب. الخارج امرأة تتمتم بكلمات غاضبة، تفهم أنها شتائم. تعلم أن تلك الغاضبة محامية وتُخمّن أنها قد تأخرت على موعدها مع القاضي. تكمل طريقك إلى الطبقة الأولى، فيسترعي انتباهك صف من المواطنين يقفون مستندين إلى الحائط أمام قلم محكمة السير، يستخدمون أوراق محاضر الضبط كمراوح للتخفيف من حرارة الجو. أما القاضي فيُنجز نحو 200 ملف يومياً. تقترب أكثر فتلحظه «غارقاً» في عرقه، على نحو بدت معه فانيلته الداخلية ظاهرة للعيان. السبب معروف: لا كهرباء، وجهاز التبريد متوقف. ناجٍ وحيد من هذه الأزمة، مكتب النائب العام كلود كرم الذي تمكّن من تأمين «خط برّاني» للحفاظ على برودة مكتبه.
وفي دردشات مع بعض القضاة يتململ هؤلاء من الحال التي يعيشونها يومياً لجهة انقطاع الكهرباء وانعدام الاشتراكات. ويصفون دوام عملهم خلال المناوبة بأنه بات لا يطاق. أحدهم يشبّه الحال في العدلية خلال شهري تموز وآب بـ «الجحيم»، مع ما يعنيه ذلك، من عرقلة السير الطبيعي للعمل لعدم توافر ظروف العمل الملائمة، ناهيك عما قد يؤدي اليه ذلك من انعكاسات سلبية، «فقد يكون الحر الشديد سبباً لنكرزة قاضٍ، فيصب غضبه على موقوف ماثل أمامه»!
خلال جولتك، تلحظ أن النيابة العامة غارقة في الظلام. يُشعل بعض شاغليها ولاعاتهم محاولين رؤية ما كُتب على بعض الأوراق. المشكلة مستمرة، فيما صوت التململ يُرفع كل يوم منذ بدء المشكلة، لكن شيئاً لم يتغير. المسألة في عهدة وزارة العدل منذ أسابيع، ومع هذا لم يسوّ شيء بعد. يتردد أنه لا اعتمادات مالية للمازوت، فيما يؤكد آخرون أن الاعتمادات، ببساطة، نفدت.
مشاكل التقنين الشديد للتيار الكهربائي لا تقتصر على التبريد أو مشاكل الرؤية للقراءة. فانقطاع الكهرباء يوقف المصعد. وبالتالي، يستحيل أن يستطيع المقعدون حضور الجلسات إن وجدت.
يذكر أن موضوع غياب الإضاءة ليس حديث العهد، بل هو قديم ــــ جديد هذا القصر المتآكل. فأزمة الكهرباء هي إحدى مميزات العطلة القضائية أيضاً. وهي تدفع بكثير من القضاة إلى السعي لتحديد مواعيد المناوبة في شهر أيلول حين تنخفض دجات الحرارة. وفي هذا السياق، سؤال يُطرح: إذا كانت هذه حال المواطنين والقضاة الموجودين في طبقات القصر المتعددة، فكيف ستكون حال السجناء الموقوفين في نظارة القصر الكائنة تحت الأرض ومن دون كهرباء أيضاً. أما الجواب: «محظوظون كل الذين لم يطأوا أرض القصر هذه الأيام».