في خراج بلدة المروانية (قضاء الزهراني)، تجاهد الداوودية للحفاظ على بعض عادات ومظاهر الزمن الجميل. القرية التي كانت مزرعة تحيط بها البساتين وحظائر الماشية، لا تزال تحتفظ بأشياء من الماضي الذي لم يعد يذكره الكثيرون، كبيوتها التي لا تزال على شكلها الأصلي، حيث الحجر الصخري يدخل في كل شيء: الجدران والقبو والغرف الكبيرة الواسعة وباحة الدار والديوان. حتى الصنوبر هناك معمّر ومن «هيداك الزمن»، لكن، في ذاكرة الداووية، الحيّة نوعاً ما، ثمة ما اندثر ولم يعد له أثر، «ومنها الكثير من العادات الاجتماعية والغذائية التي كانت جزءاً من نفوس الناس، وخصوصاً في الأعياد كعيد الفطر»، يقول أحد معمري البلدة محمد دياب (87 عاماً). يعود العجوز ثمانين عاماً إلى الوراء عندما كان طفلاً ينتظر وإخوته وأقرانه عيدية الفطر. كانت لتلك العيدية طقوسها التي تختلف باختلاف سنوات العمر. فعندما كان محمد طفلاً، كان يشتري بعيديته بعض الحلويات، مثل المعلّل، وهو عبارة عن فواكه مغطاة بقطر ملون، والدروبص، وهو شبيه بقطعة «البونبون» المصنوعة من الحامض والسكر والفستقية والسمسمية والملبن. وعندما كبر قليلاً، بات يصمّد العيدية ويتوجه يوم العيد مع أترابه سيراً على الأقدام إلى الطريق العام في الزهراني، حيث ينتظرون وقتاً طويلاً البوسطة أو «التران» لتقلهم بربع ليرة إلى صيدا. تلك المدينة التي كانت في حينها تمتاز بطغيان مظاهر العيد، لا كغيرها من الحارات، إذ يبدأ العيد فيها قبل أيام، حيث كان الرجال يقصدونها لقص شعر أطفالهم الذكور، فيما تقصدها النساء لشراء الثياب والأحذية الجديدة للأطفال.
أما ما هو مميز في ذلك الزمن، فهو انهماك النساء في إعداد مأكولات أيام العيد قبل أيام من حلوله. الأمر يستحق، فالفطور الأول بعد طول صوم يخطط له ليكون دسماً... وهل هناك طبق أدسم ويشبع المعدة أفضل من طبق الفول المدمس والحمص؟
أما الغداء، فله تقليد آخر. فالأضحية كانت، ولا تزال لكن في بيوت قليلة الآن في الداوودية، طبقاً ثابتاً على موائد المناسبات السعيدة: رأس ماعز أو خروف لمن يملك «زريبة» ماشية، وديك أو دجاجة لمن لا يملك. ومن الأضحية، تُعد الأطباق الرئيسية المتنوعة ما بين المغربية ويخنات الفاصوليا والبطاطا والملوخية، إلى جانب الكبة المقلية باللبن و«تطبيقة الرز» وشراب البليلة المصنوع من البرغل المنقوع بالحليب والمذوب باللبن السائل والملح. كانت اللحمة «المدقوقة» على البلاطة والمشوية، نجمة الأعياد. يقول دياب إن «النساء كن يقضين ساعات في دق اللحمة النيئة في الجرن أو على البلاطة، لتصبح طرية كالزبدة، أما الرجال، فكانوا يهيئون الصاج لشيّ قطع اللحمة». وبين الفطور والغداء وطوال أيام العيد، تعدّ أنواع مختلفة من الحلويات للضيافة. مائدة طويلة كانت تفرشها والدة محمد من صنع يديها للزوار، تشمل كعك العيد الحلو الطعم المصنوع من طحين القمح «الفرخة» والسمنة البلدية والسكر واليانسون وحبة البركة والزنجبيل والقرفة والمحلب والسمسم والعقدة الصفراء والدقة «جوزة الطيب». وكانت أم محمد تخلط تلك المواد لتحصل على عجينة الكعكة، وبعد ذلك تقطعها إلى كريات صغيرة الحجم، وتكبس في قالب خشبي محفور يعطي شكله للكعكة قبل أن تخبز في طابونة الحطب أو التنور، ويغطى وجهها بالحليب. ومن الحلويات، المرصبان، وهي عبارة عن قطعة حلوى مكونة من اللوز أو الجوز مع السكر. وهناك، أيضاً، الزلابيا، وهي حبال غليظة ذهبية مقلية مصنوعة من عجينة يضاف إليها الزيت وتفرك جيداً باليدين. وبعد قليها وتصفيتها من الزيت، تقدم مع القطر أو دبس العنب أو دبس الخروب. وبطريقة شبيهة بالزلابيا، هناك «معكرون زلّيط» أو «أم خليل»، كما يسميها البعض، وهي عجينة مكونة من الطحين والقرفة الناعمة والكربونات، يضاف اليها الزيت ودبس الخروب والماء الدافئ. بعدها، تقلى حتى يصبح لونها ذهبياً. ومن الفصيلة ذاتها، العوامات باللبن، التي تصنع من رش بودرة الكربونات فوق اللبن، الذي يضاف إليه الطحين ويخلط جيداً. ثم تقلى كتل العجين وترفع من الزيت وتصفّى ثم تسقط بالقطر.
إلى جانب هذا كله، كان هناك المجمّرة التي، تُعد من الأرز المسلوق والحليب والسكر. وعندما تتجانس تلك المكونات بعضها مع بعض توضع في الفرن. وهناك أيضاً المهلبية المصنوعة من الحليب والنشاء وماء الزهر المغلية على النار وصينية الذرة، إلا أن النوع الأبرز الذي كان يُعدّ في البيت أو يشترى، هو «نقولات القضامة»، المصنوعة من حبات الحمص البيضاء أو الصفراء المحمصة مع ملح أو بدونه في وعاء نحاسي دائري كبير.