اسمه «درج الفاندوم» في شارع مار مخائيل في الأشرفية. فاندوم نسبة إلى السينما التي كانت لا تزال تقف في مكانها قبل أشهر قليلة. مشاريع أبراج الباطون أطاحت المبنى، لكنها لم تقوَ على تغيير اسم الدرج؛ فهو بالنسبة إلى أهالي المنطقة لا يزال «درج الفاندوم.» وعليه نظمت «مجموعة كهربا» ثلاث ليال فنية. لم يكن هدف المجموعة الأول تعريف الزائرين بالمنطقة التي يسكنونها منذ أكثر من سنة، بل تعريف جيرانهم بعملهم. فأتت تظاهرة ثقافية، فنية مسرحية على الدرج. ولكن، من جاء ليحضر الحدث تعرّف أيضاً إلى الأحياء القديمة في بيروت، وعلى نمط حياة له هوية، ووجوه. بيوت الدرج المتلاصق بعضها ببعض باتت لها قصص. أصحاب العروض عرفوا المنطقة بلافتات كتبت باليد: هناك الحديقة، والسطح... فيسير الزائر بين البيوت وعلى الأدراج الفرعية. هناك، تحت شجرة الكاوتشوك، تنتظره طاولة وكراس وضعها الجيران على أرض مشتركة بين بيتين. واضح أنه ملتقى الأهالي لشرب القهوة على الدرج. منظر عمره عقود، وقهوة وثرثرة عمرها عشرات السنين. في ليالي «نحن والقمر جيران» بات لمار مخائيل وجه وأسماء وحكايات. قدمت «مجموعة كهربا»، مثلاً، عرضاً للدمى (بحجم الإنسان) من شرفات البيوت. فجأة تخرج «تانت جوسلين» بثياب النوم لترحب بالزائرين، وهي ترد على جارتها في الشرفة المقبلة التي تحاول أن تعثر لابنها بين الجمع على عروس! عروض مستوحاة من حياة أهالي الدرج وشخصياتهم. ويقول أوراليان زوقي، مؤسس المجوعة «إن العمل كان مع الأهالي ومع الحياة التي يعيشونها والتي باتت شبه معدومة في الأحياء الجديدة في بيروت. أهالي الدرج ولدوا هنا، كبروا بعضهم مع بعض، وهم الآن يشيخون على الدرج. إنهم من العائلات القديمة التي باتت اليوم تختفي في بيروت بسبب غلاء المعيشة والعقارات. في أحياء أخرى، اضطر الأهالي إلى الرحيل، ومن سكن شقق البنايات الحديثة لا يعيش هذه الألفة».
هدف هذا العمل الفني لم يكن تعريف المشاركين بأهمية الدرج التراثية، وذلك لأن الأبنية المحيطة به ليس لها طابع هندسي مهم أو خاص بها. إنها أبنية شيدت بين خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وسكنها أبناء الطبقة الوسطى. بيوتها بسيطة. حدائقها عادية. ولو كانت بيروت لا تزال تحافظ على طريقة عيشها القديمة، لكان هذا الشارع مثل كل الشوارع الأخرى. ولكن، مع تناقص عدد الأبنية القديمة واختفاء ما يسمى علمياً «النسيج العمراني» باتت لـ«درج الفاندوم» أهمية كبرى. فحينما يطالب أهل الاختصاص بالمحافظة على أحياء تراثية، يكون ذلك لأهمية المباني فيها، ولأن الحياة في أزقتها بقيت على هويتها. وهذا ما يميز «درج الفاندوم». ويقول زوقي «إن العمل استوحى من التراث المحكي لأهالي الحي، ومن أخبارهم وقصصهم. فأعاد مثلاً إحياء دور الحكواتي (الذي تطور مع الحياة فباتت تقدمه امرأة)، ولكنه أدخل الفن إلى حياتهم، فتحولت الإلياذة إلى قصة تسرد من «عرباية الحي» وأتت الخيول المرسومة بالكرتون لتسير بين الجموع».
ولأن العمل جاء من القلب، كان زوار الليل كثراً. أما الحدث فأتى بمشاركة الأهالي، «المجموعة لم تقدم العروض لهم، بل كانوا هم جزءاً منها، وقد أعطت السكان رابطاً آخر بالحي. فهم اليوم يهتمون بالشجرة التي نصبت في آخر الاحتفال، ويتأكدون من أن اللوحة التي رسمها المشاركون في الحدث على الحائط لا تزال بحالة جيدة. العمل الفني، ووصول الزائرين كل ليلة إلى الحي، أعطىا لحياة سكانه طعماً آخر. بالنسبة إليهم، لم تعد بيوتهم مجرد غرف قديمة، بل باتت مركزاً فنياً، وباتوا هم أبطاله.
عمل «مجموعة كهربا» يدخل ضمن إطار المحافظة على هوية العاصمة، ولو انتقل إلى أحياء أخرى لأعاد إلى السكان هذه الرغبة بالتشاور والكلام والتقرب والتعرف إلى الجار، الذي كان... قبل الدار.