منذ ستة أشهر لم يعد «الباش» يملك صفة رسمية في محكمة جويا (قضاء صور). رسمياً، تقاعد محمد فقيه، أو «أبو هيثم» كما يعرف، من رئاسة قلم المحكمة بسبب بلوغه السن القانونية. فعلياً، لم يرض بإنهاء خدمته في جويا أو في محكمة صور، فواظب على الحضور إلى المحكمتين أثناء وجود القضاة فيهما، في إطار مبادرة شخصية تطوعية ومجانية؛ إذ أراد أن يكون جاهزاً في حال استعانة أحد الزملاء به في استشارة أو نصيحة ما. الخطوة لاقت ترحيباً، فالموظف الذي تنتهي خدمته في محكمتي صور وجويا، لا يأتي أحد مكانه بسبب توقف وزارة العدل عن التوظيف في المحاكم. لذلك، إذا ما تقاعد أحدهم، يستعان بـ«حواضر» المحكمة، فيطلب من أحد زملائه تسلم مهامه بالتكليف، لا بالأصالة. الموعد الحقيقي لتقاعد أبو هيثم، كان قد حان في مطلع آذار الفائت. إلا أن التأخر في تأمين بديل له بسبب غياب التعيينات، كبّده دواماً لشهر كامل إضافي، دفعه للدولة من جيبه. علماً بأن أبو هيثم نفسه، قد تسلم منصب رئيس قلم محكمة جويا عام 1998 بالتكليف، لا بالامتحان إثر تقاعد رئيسه الأسبق!التحق فقيه بالمحكمة قبل أربعة عقود، عبر مجلس الخدمة المدنية. حينها، في عام 1966، وجد الفتى الذي حاز الشهادة المتوسطة من بين قلائل في المنطقة ورفض الهجرة، أن «وظيفة الدولة أفضل وأكثر ضماناً». تحصيله العلمي مكّنه من تقديم طلب للالتحاق بالتعليم الرسمي، لكن إصدار مرسوم تعيينه تأخر. كان يمر بالصدفة من أمام المجلس حين قرأ إعلاناً يطلب مساعدين قضائيين من رتبة مباشر. لم يحتج إلى تأمين الواسطة قبل التفكير بالوظيفة، بل خضع وهو «أعزل» للامتحان عام 1968 وحاز المرتبة الثانية.
بعد عام، ألحق بمحكمة صور. كان الشاب يقف عند الباب في غرفة الجلسات لينادي المتقاضين والشهود وينجز بعض الأعمال القلمية. لكن رئيس القلم، آنذاك، علي صالح، بادر إلى تدريب محمد وزملائه السبعة على مختلف الأعمال في المحكمة. فاطّلع المباشر على عمل الكاتب ورئيس القلم والحاجب ومأمور التنفيذ والقاضي. أسلوب أثمر لاحقاً ثمانية رؤساء أقلام توزعوا على محاكم في المناطق كافة. وإلى الامتحان مجدداً ليحوز الشهادة الثانوية عام 1971 وإجازة جامعية في التاريخ بعد أربع سنوات، في الوقت الذي كان قد كلف فيه أعمال الكاتب في المحكمة حتى عام 1993. هذه السنة لا تمثّل محطة مهمة في سجله؛ لأنه أصبح كاتباً أصيلاً فحسب، بل لسائر الموظفين في محاكم لبنان؛ لأنها شهدت آخر دفعة من التعيينات بموجب امتحانات مجلس الخدمة. وبسبب عدم إجراء تعيينات أخرى، اقتضى تقاعد رئيس قلم جويا عام 1998، نقل فقيه من صور إلى جويا بداعي الحاجة لملء الفراغ.
على الدرج نفسه الذي صعده قبل ثلاثة عشر عاماً، نزل أبو هيثم مغادراً مقر محكمة جويا التي لم تطرأ عليها تعديلات أو تحسينات. لكن المبنى على ثُغَره، وجده أفضل حالاً من محكمة صور. قبل التحاقه بها، كانت المحكمة عبارة عن طبقة في بناء مستأجر في بلدة جويا. ولما اندلعت الحرب الأهلية، تهجّر أصحاب المبنى من بيروت إلى مسقط رأسهم. طلبوا استعادة مبناهم، فـ«تهجّرت» المحكمة وملفاتها وموظفوها إلى محكمة صور طوال فترة الحرب والاعتداءات الإسرائيلية. وفي عام 1996، استأجرت وزارة العدل الطبقة الأولى في مبنى البلدية. وبرغم أهميتها ومسؤوليتها عن قضايا نزاع ثلاثين بلدة محيطة بجويا، إلا أنها تبدو فاقدة لاستقلاليتها في ظل اشتراكها بالمبنى، ليس مع البلدية فحسب، بل مع عيادات أطباء ومكاتب مسّاحين ومخاتير. علماً بأنك لو قصدتها قبل أشهر، لما وجدت لافتة تدل على وجودها. حتى إن وجود مقر فصيلة جويا عند مدخل المبنى منذ عشر سنوات، لا ينسحب عليها بحماية أمنية؛ إذ لا يخضع من يقصد المحكمة للتفتيش. فقدان الاستقلالية ينسحب على موقف السيارات أمام المبنى المحاذي للطريق العام. صف المواقف يمنح المحكمة مكاناً واحداً لسيارة القاضي. أما الموظفون والمواطنون فيدبرون أنفسهم في المحيط المكتظ. علماً بأن القاضي نفسه لا يداوم في جويا دائماً بسبب كثافة الضغط الملقى عليه في محكمة صور. فالمحكمتان يخصص لهما قاضيان يسيّران عملهما في وقت واحد: الأول مدني والثاني جزائي. من هنا، بما أن أبو هيثم رئيس القلم وكبير الموظفين، تضاعف عمله الذي كان يدفعه للانتقال إلى محكمة صور لتنسيق الملفات مع القاضي الذي يخصص وقتاً أكبر للمحكمة. الأمر الذي يكبده أجرة نقل كان يدفعها من جيبه الخاص، إلى جانب العمل الإضافي خارج الدوام.
ولأن أبو هيثم أمضى في محكمة صور 29 عاماً، يفرد العارف بالمحكمتين (جويا وصور) مساحة كبيرة للحديث عن مبنييهما وتجهيزاتهما. يبدي استياءه من ارتفاع بدلات استئجارهما السنوي؛ إذ «تكفي قيمة إيجار لعامين لبناء مبنى جديد». قبل تقاعده، قدم اقتراحاً إلى وزارة العدل، ينص على نقل محكمة جويا إلى أحد مباني المدارس الرسمية التي لم تعد تستخدم. يرى الرجل أن التوفير في بدلات الإيجار المرتفع الذي تتكبده الدولة قد «يستفاد منه لرفع رواتب الموظفين والقضاة وزيادة عددهم وتوفير تجهيزات حديثة للمحاكم»، علماً بأن المكننة «غائبة» في صور أو جويا إجمالاً. المحكمتان لم تدخلا عصر الحواسيب بعد، ولا تزال الملفات وقضايا الناس تشكل معرضاً دائماً على الرفوف في الغرف المشرعة أمام الجميع. وبالنسبة إلى رفع مهارات الموظفين وخبراتهم العملية، اعتمد أبو هيثم على جهده الشخصي «في تثقيف نفسه». الوزارة كانت تنظم دورات بين الحين والآخر في بيروت، إلا أن معظم الموظفين لم يكن بمقدورهم الالتزام بها بسبب الدوام وبعد المسافة.
يرفض أبو هيثم، بحزم، الاتهامات التي تساق عن بعض الموظفين باستغلال وظيفتهم وتلقي الرشى: «مش عنا في صور أو جويا». يعود سبب ذلك برأيه إلى منع «القضاة الذين تعاقبوا على محاكمها حدوث الأمر». لكن سرعان ما يعترف «الباش» بأن «تدني الرواتب قد يجبر البعض على تلقي إكراميات وحوافز زيادة على معاشه الرسمي». أما هو فـ«غير محتاج إلى ذلك أصلاً». فقد استحصل عام 1978 على إذن للتعاقد مع وزارة التربية والتدريس، إضافة إلى عمله في المحكمة «ليصير المعاش يكفّي». رغم ذلك، يتحسر لأن أول راتب قبضه ابنه الشاب المتخرج حديثاً في قطاع الفنادق يفوق بدرجات الراتب الذي كان يحصل عليه عند إحالته على التقاعد.



يرى أبو هيثم أن «أساس العلة» في عمل المحاكم في لبنان هو «النقص في عديد القضاة والموظفين»؛ إذ ينظر رئيس محكمة صور الجزائية وحده، مثلاً، في خمسة آلاف ملف محالة حالياً أمامها للنظر فيها وبتّها، بينما تقتضي الحاجة وجود ثلاثة قضاة. هذا السبب يؤدي، برأيه، إلى تأجيل المحاكمات وبتّ الأحكام «ما يشيع لدى المواطنين اعتقاداً بالتقصير والمماطلة والفساد».