أثناء توقيفه في زحلة، سمع رضا تيمور أصوات نساء. قال له المحققون إنها «أصوات أمك وأختك: اعترف». تضاءل الوقت وضاق العالم حتى صار زنزانةً سوداء. التحقيق في تلك الحال ليس أسئلة بحثاً عن خيوط. ما زلنا في الشرق. والتحقيق، إذا ثبت تعذيب كهذا، هو كناية عن نتيجة مسبقة تستجدي إثباتاً. كيف تكون هناك حقيقة، وحادثة «البلانكو» عالقة في رأس الموقوف الشاب لا تفارق ذاكرته. التقارير الطبية المرفقة تؤكد أن «البلانكو» كان وسيلة التحقيق الفُضلى. وفي مرافعة سابقة، لمحامي رضا، كريم بقرادوني، قدم الأخير مستندات طبية، تثبت تعرض الشاب لمسلسل طويل من التنكيل. تُرك عارياً. تآكل في برد زحلة. قسوة البرد سمة موصوفة في ذلك السجن. بعد الجليد، ضُرب بأدوات صلبة. حصلوا على توقيعه بعدما سحقوه.
توقيع من نافذة النظارة وبالكاد «على الباب». الشهود في القضية يجزمون: لم يكن يعرف على ماذا يوقّع. حين سأل ذات مرة، قالوا له ساخرين: «على أوصافك».
حتى اليوم، لا تزال آثار التعذيب ظاهرة على رضا. وبناءً على إفادات الشهود، بعد متابعة القضية، يبدو القاضي ع. ح.، صهر الصراف المقتول، متورطاً إلى حدٍ كبير، الى جانب المحقق المعاون ع. خ.، وهو ابن عم القتيل أيضاً. إحدى القصص من محاضر التحقيقات تقول الآتي: تذكر والدة رضا أنها رأت ابنها حافي القدمين. كان إلى جانبه شخصان. لم يكن قادراً على المشي، وكان يستند إليهما. وقعت الوالدة أرضاً من قسوة المنظر. حينها قال القاضي: «هذا المسدس ليس لك حسب أقوال أمك». توسل رضا إلى أمه أن تقول عكس ذلك. فقالت: «أقول إنه لنا إذا توقف الضرب». نمط قروسطي في التحقيق، إذا صح، فإنه يتطابق إلى حدٍ بعيد مع «أشباح غويا». الفيلم الذي تنتزع فيه الكنيسة الاعترافات من الإسبان تحت وطأة الصلب والضرب. لكن، لم يكن هناك «بلانكو» في إسبانيا.
سمع الجميع في النظارة صراخ رضا. هذا ما أكده الشاهد ن. ط. الذي جزم بأن الوحيد الذي تعرض للتعذيب هو رضا دون غيره. والخطير في الأمر، أن التعذيب لم يتوقف هنا. جاء في مرافعة بقرادوني أن محققاً دخل إلى غرفة التعذيب، وتوجه إلى رضا، المصلوب على «البلانكو» والمعصوب العينين، قائلاً له: «أنت ابن عيلة ورئيس الجمهورية عزّى بستك. عيلتك مستورة والقصة بتنحل بأربعين ألف دولار». هل كانوا يبتزّونه أيضاً؟ يكفي الاطلاع على كمية التقارير الطبية المرفقة من محامي الموقوف للذهول. بعد كل المؤتمرات والطاولات المستديرة والتزامات لبنان الأممية في موضوع مكافحة التعذيب، تظهر حالة كرضا. قبل سنتين، كان الشاب عاجزاً عن الوقوف. كان مجرد صورة قديمة لجامعي شاب وجد نفسه في السجن فجأة.
حين نقل إلى سجن رومية المركزي في 30 كانون الثاني 2008، اكتشف الطبيب الشرعي هناك «اقتلاع أحد أظفار الموقوف». في رومية، أظهر تقرير الطبيب الرسمي سيلاً هائلاً من الملاحظات والتورمات والانتفاخات في جسد الموقوف ناتجة من التعذيب، إضافة إلى حدث هام في 27 أيار 2009. بعد سنة و5 أشهر على تعرضه لـ«التحقيق»، خضع رضا لفحص الرنين المغناطيسي. تداول الطبيب ش. ع. مع اختصاصيي الأشعة بالنتيجة، وتوافقوا جميعاً على أن الموكل يشكو من «تورم وانتفاخ في الكاحل الأيسر»، و«تمزق في غلاف عضل الركبة اليمنى». بات بحاجةٍ إلى علاج متخصص. يعني ذلك أن «التعذيب حقيقي». لكن حساسية الموضوع تكمن في اتهامات توجه إلى المحامي العام الاستئنافي ع. ح. والمحقق في الشرطة القضائية ع. خ.، بالتورط في تعذيب رضا وإرغامه على الاعتراف بما «لم يفعله».
ولكن، لماذا اتهام رضا تيمور؟ الإجابة كانت في جلسة أول من أمس، في محكمة جنايات بيروت، برئاسة القاضية هيلانة اسكندر.
بعد مرافعة للمحامي عبدو أبو طايع، باسم زملائه، بطرس حرب وكريم بقرادوني وعبد المعين غازي وجورج شرفان، وبعد تكرار ما ذكر في المرافعات السابقة، عن «بطلان التحقيقات الأولية برمتها» لكونها انتزعت تحت التعذيب، خرج أبو طايع عن المألوف في حالات مشابهة وأشار في مرافعته «إلى القاتل الحقيقي». وهنا، حساسية إضافية في الموضوع. إذ تشير إشارة أبو طايع إلى «ملابسات» الدور الغامض للقاضي ح.، الذي أدى إلى نقل القضية إلى محكمة جنايات بيروت، بحثاً عن عدالةٍ أرحب. وكما هو معلوم، فإن القاضي على قرابة بالضحية، لكن اتهام أبو طايع لأحد أشقاء المغدور بقتل شقيقه (الصراف)، معززاً بالأدلة، خلال جلسة أول من أمس، ضاعف من قوة موقف الدفاع، خصوصاً أن المتهم أثبت بالقرائن وجوده في مصرف الاعتماد اللبناني لحظة حصول الجريمة. وهناك أشرطة الفيديو الخاصة بالمصرف، التي سأل المحامي غازي عن سبب «تحويلها إلى أقراص مدمجة»، وعن نفي «قاضي التحقيق تسلّمها وفقاً للمحاضر، بينما أكدت تقارير الشرطة القضائية تسلّمها قبل ستة أشهر». وفي مرافعته، أكد أبو طايع أن المبلغ المالي المسروق من الصراف المقتول، هو نفسه، الذي وجد (وفقاً للتحقيقات) في منزل شقيقه، الذي أكدت إفادات الشهود (ومن بينهم الشقيق الثالث)، «وجود خلافات حادة شبه يومية بينه وبين شقيقه (الصراف)». واتهم أبو طايع، شخصين آخرين، بالاشتراك في قتل الصراف، نظراً إلى وجود آثار دماء على قميص أحدهما، أثبت فحص الـ«دي أن آي» أنها تعود لواحد منهم، فيما أكد فحص مشابه أن الدماء الموجودة تحت ظفر المقتول «تعود إلى إلى ج. خ.». واستفاض أبو طايع، ليؤكد أن دماء المغدور وجدت في سيارة أحد الثلاثة الذين يتهمهم، وهي «مرسيدس غواصة كحلية»، تماماً كتلك التي كانت بحوزة رضا يوم حصول الجريمة، علماً بأن الشاب استأجرها قبلاً و«مر على الصراف ليبتاع لها بوليصة تأمين».
هكذا، وفي صباح 22 كانون الأول 2007 وقعت جريمة اغتيال الصراف أحمد الخطيب، بعدما أُطلق عليه طلق ناري استقر في رأسه، ونقل إلى المستشفى ليموت بعد أيام. أوقف رضا تيمور لأنه كان يقود سيارة «غواصة كحلية». محاموه يقولون إنه تعرض لأبشع أنواع التعذيب، وإن أشرطة الفيديو في المصرف تثبت أنه كان في المصرف، لحظة وقوع الجريمة التي حددت تقارير الأطباء وقوعها عند الساعة الـ 8،30 تقريباً. التحقيقات انتهت، والجلسة النهائية، التي ستصدر فيها رئيسة محكمة جنايات بيروت، القاضية اسكندر، الحكم، حددت في 27 الجاري. لكن الأمر المؤكد الوحيد، أن اعتراف رضا لم يكن قانونياً أو طوعياً. لقد تعرض الشاب للتعذيب، فيما كان «بإمكانه الهرب»، لكنه بقي لأنه كان «مقتنعاً بأنها قصة ساعة من الزمن، يدلي بشهادته، ويرحل». لم يكن يعرف «خفايا» القصة، فيما أثبتت «تحقيقات» محاميه أن ثمة التباساً بات واضحاً. رضا ليس وحده الذي كان يقود «غواصة كحلية». وقانونياً، لا يجوز لأقارب الضحية المشاركة في التحقيقات، بأي شكل من الأشكال. وطبعاً، الاعترافات المنتزعة عن «البلانكو» باطلة حكماً. فقد انتهت القرون الوسطى.



التقارير الطبية تثبت فداحة التعذيب

في 17 كانون الثاني 2008، عاين الطبيب الشرعي رضا في زحلة، بتكليف من قاضي التحقيق الأول في البقاع، طنوس مشلب، فوجده «يشكو من أوجاع في القدم والكاحل من الجهة اليُسرى، ومن صعوبة في المشي، ومن تنميل في إبهام اليدين»، وتبين في التقرير أيضاً عند الكشف السريري وجود «سحنات حمراوية اللون باهتة، بشكل خطوط متوازية ومتقاطعة، بأطوال مختلفة من خمسة سنتمترات إلى عشرين سنتمتراً، بعرض خمسة ميللمترات، عددها تسعة خطوط موجودة على القفص الصدري من الجهة الخلفية، من جهة الظهر عن الجهتين اليمنى واليسرى إلى الناحية الخلفية للكتف اليسرى»، مقدراً أن تكون ناجمة عن الضرب بآلة صلبة ويعود تاريخها إلى أسبوعين. ولفت التقرير إلى أن «إصابات رضا ناتجة من ضربه بآلة حادة». كذلك «وجدت كدمة زرقاء اللون قاتمة مستديرة الشكل من الناحية الأمامية للركبة اليسرى»، وأن ذلك جرى قبل أسبوعين من تحرير التقرير، علماً بأن توقيف رضا تم في 1 آذار 2008، أي قبل أسبوعين من صدور التقرير.