الحقيقة، المرّة جداً، لدى السجناء في لبنان، أن من ترى الدولة فيه مسبّباً لأذى نفسه، فإن علاجه يكون على نفقته الخاصة. كيف يُحدد هذا التسبب بالأذى؟ لا نص يوضح ذلك. لا قاعدة تضبط التعريف. فقط رأي المسؤول أو الطبيب المشرف. وبعيداً عن هذا الأذى، فإن الدولة لا تعترف للسجين بأي تكلفة علاج عنوانه «التجميل» أيضاً. ترميم الأسنان وإصلاحها «تجميل» في رومية. العقاقير المغذية، التي يأخذها البعض نتيجة مشاكل سوء التغذية، هي الأخرى «تجميل». كثيرة هي المشاكل الصحية التي يمكن أن توضع تحت هذا العنوان. ثمة حالات أخرى تبخل بها الدولة على سجينها. فمثلاً، من يدخل إلى السجن وهو يعاني من إصابة في قدمه، جراء حادثة حصلت قبل سجنه، فإن إدارة السجن غير ملزمة بعلاجه. في الواقع هي تعالجه، لكنها تأخذ توقيعه على تعهد بالدفع عند إنهاء مدة محكوميته. ولكن من أين يأتي بالمال، وهو المحروم أصلاً، خلافاً للقانون، من مزاولة أعمال داخل السجن مقابل مردود مالي؟ «صراحة هذه مشكلة، لكن حلها ليس عندنا». لا يجد الضابط المسؤول سوى هذه العبارة. هو محقّ فيها. فالمشكلة ليست في من يطبق القانون هذه المرّة، بل في القرارات والمراسيم القديمة جداً، التي باتت تحتاج إلى تعديل.إذا انتهت مدة محكومية السجين، وهو لا يملك مالاً، وليس لديه من يدفع عنه، «يتم تقريش المبلغ المترتب عليه، وهو يسمى في هذه الحالة رسوماً مالية، لا غرامة، فيسجن مدّة يحددها القانون مقابل المبلغ!». هذا ما أوضحه الضباط المعنيون.
هذه الفضيحة، بحسب أحد المحامين الذين يتابعون قضايا السجون، لم تكن «الأخبار» لتعلم بها لولا سيل من الاتصالات من داخل سجن رومية. أحد السجناء جمع بعضاً من عينات المعاناة، ونقلها عبر الهاتف (الذي يفترض أنه ممنوع في السجن). السجين ع. س. وقّع على فاتورة صحية بقيمة 240 ألف ليرة. إن لم يجد من يدفعها عنه، فإنه سيمكث خلف القضبان يوماً عن كل 175 ليرة من أصل المبلغ. المجموع يفوق 4 سنوات! القوانين التي ترعى هذا «التقريش» قديمة جداً. من زمن الليرات والقروش، لكنها ما زالت سارية المفعول، إلا إذا «حنّ قلب أحدهم». السجين م. أ. بات في ذمته الصحية مبلغ 135 ألف ليرة. السجين م. ط. عليه دفع 90 ألفاً. الأسماء كثيرة ولا مجال لذكرها كلها.
يُذكر أن مبالغ الفواتير الصحية هذه تعدّ رسوماً مالية، والفرق بينها وبين الغرامة أن الأخيرة تفرضها المحاكم كعقوبات، وهذه يمكن أن تكون بملايين الليرات، لكن آلية «تقريشها» تختلف عن الرسوم، بحيث يمكث السجين، الذي لا يملك مالاً، يوماً واحداً عن كل 10 آلاف ليرة.
لا يفهم إبراهيم، السجين منذ 4 سنوات، سبب «حب الدولة لسجن الناس. يحبسوننا بسبب عدم حيازتنا الأموال». يذكر أن زميلاً له أنهى مدّة محكوميته، لكن الرسوم المتعلقة في ذمته حالت دون خروجه إلى الحرية. تدخّل عندها آمر سرية السجون العميد عامر زيلع، واستطاع توفير المبلغ ليدفع عن السجين. يقول السجين: «في هذه الحالة، كان العميد إنسانياً، ولكن إلى متى يبقى السجناء محكومين بالشفقة. لنفرض أن ضابطاً آخر كان هو المسؤول، ولم يتفاعل مع هذه الحالات، هل تستمر أيام السجن بسبب تكلفة مرضه، مثلاً، الذي يفترض بالدولة أن تتكفل به؟».
أحد المسؤولين الأمنيين، أوضح لـ«الأخبار» أن ثمة مذكرة إدارية لدى إدارة السجون، رقمها 93، تنص على «وجوب تحمل السجين تكلفة علاج أي حادث يسببه لنفسه». في هذا الإطار، يُذكر أنه، وبوتيرة شبه يومية، تورد التقارير الأمنية الرسمية أخباراً عن سجناء يشطبون أجسادهم احتجاجاً على أوضاع معينة داخل السجن.
يُشار إلى أن المادة 54 من مرسوم تنظيم السجون، الصادر في عام 1949، تنص على أنه: «في نهاية كل 3 أشهر، يضع الأطباء (في السجون) تقريراً مفصلاً عن حالة السجن من حيث توفر الشروط الصحية، وعن حالة المسجونين، وعليهم أن يذكروا جميع الأمراض التي يتحققون من وقوعها». هذا على مستوى النص، لكن على مستوى الواقع، فإن بعض السجناء يكادون ينسون شكل الطبيب، بل فكرة الطبيب من أصلها.