«أمي العزيزة. أنت حاضرة في خاطري 24 ساعة في اليوم. أفتقد وجودك جداً. أتألم للانقطاع بيننا، وأحنّ إلى لقائك. أنا في لبنان، للمرة الثانية، للبحث عنك. سبق أن جئت في تشرين الأول 2010 أملاً بلقائك، لكنني لم أعثر لك على أثر. أرجوك. أنا بحاجة للتعرف عليك. أعدك. سيتم كل شيء بسرية تامة. أعدك بذلك. أنا أعذرك رغم أني آمل أن أعيش بقية عمري في حضنك». هذه الكلمات لطفل لبناني مولود في تشرين الثاني 1974 حسب وثائق التبني، صار شاباً هولندياً اسمه ستيفن سونيفيلد. هو واحد من آلاف الأطفال الذين فُقدوا عشية الحرب الأهلية وخلالها، قبل أن يتبين أن نحو 400 منهم نُقلوا إلى هولندا حيث تبنّتهم عائلات هولندية. هؤلاء الأطفال صاروا شباباً، لكنهم لا يعرفون آباءهم وأمهاتهم الحقيقيين. لذلك، قرر بعضهم العودة الى لبنان والبحث على أمل لمّ الشمل مع أهاليهم. علما أن القاسم المشترك بين بعض هؤلاء هو ورود اسم ابراهيم وعبلة جميل كشخصين تمت عبرهما عملية التبني. إذ تولى هذان الشخصان تسليم عدد من الأطفال إلى عائلاتهم بالتبني في أحد فنادق بيروت.
ينطلق ستيفن في حديثه الى «الأخبار» من «إيمان راسخ يعززه شعورٌ داخلي» بأنه سيتمكن من إيجاد والدته. يقول: «عندما علمت أن لبنان وطني الأصلي وأن أهلي لبنانيون اجتاحتني أسئلة أقلقتني سنين طويلة: هل لا يزال والداي على قيد الحياة؟ هل سأجد أمي الحقيقية، وكيف؟ هل سأعرف حقيقة ما حصل بينها وبين والدي، ومن يكون؟ لماذا تخلّيا عني ووضعاني في الملجأ؟». هذه التساؤلات لم يعد ستيفن يبحث عن أجوبة لها، أو ربما تخطاها. هو، اليوم، يبحث برؤية جديدة يرى أنها أكثر وضوحاً من سابقاتها. فوالدته «لا تزال على قيد الحياة»، يؤكد الشاب بثقة، ويضيف: «المهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. واللقاء محتوم لأن الأرواح تتواصل. أشعر أنها تفكر بي دائماً. أنا متأكد أنني لا أغيب عن بالها».
ولادة الشاب الهولندي، ذي الجذور اللبنانية والذي يعمل مستشاراً مالياً، كانت في مستشفى في الأشرفية، في أحد صباحات تشرين الثاني عام 1974. بعد ثلاثة أشهر، تحديداً في كانون الثاني 1975، «سافر» إلى هولندا برفقة «أبوين» غير اللذين أنجباه. الأسبوع الماضي، عاد ستيفن إلى لبنان لمعاودة البحث. لا يعلم ماذا كان اسمه عندما كان رضيعاً، لكنه يحمل صورته طفلاً واسم الطبيب الذي أشرف على ولادته. كان يأمل أن يكون الطبيب لا يزال على قيد الحياة، فتحقق له ذلك. التقاه في منزله في عين الرمانة لنحو ساعة. لكن نحو أربعة عقود مرّت على الولادة ــــ المأساة كانت كافية لينسى الطبيب كل التفاصيل، ما نسف القاعدة التي حاول ستيفن أن يرتكز عليها، بعدما ظن أنها خيط قد يقوده إلى حضن والدته.
«الأخبار» اتصلت بالطبيب الذي أشرف على ولادة ستيفن، فأشار إلى أن الطفل المذكور لم يولد في المستشفى بل في أحد المنازل المحيطة به. وعن هوية الوالدة، أكّد أن الملفات التي كان بحوزته احترقت جميعها خلال الحرب الأهلية بعدما وقع انفجار أمام منزله أسفر عن مقتل العشرات.
وعلمت «الأخبار أن المستشفى الذي ولد فيه الشاب الهولندي وعشرات الأطفال ممن جرى بيعهم بقصد التبني إلى العديد من البلدان، ويقع في محلة الأشرفية، أقفل قبل نحو عشر سنوات، وقدكان ذائع الصيت لجهة كونه مقصداً للولادات غير الشرعية. وأكّد بعض من عملوا سابقاً في المستشفى أثناء الحرب الأهلية أن القيمين على المستشفى كانوا يقومون، بمعاونة أطباء، ببيع الأطفال والاتجار بهم. وقالت ممرضة سابقة تبلغ من العمر نحو 75 عاماً أن مديرة المستشفى ربّت طفلاً حتى بلغ سنة ونصف السنة من العمر قبل أن تبيعه لإحدى العائلات في الخارج.
ستيفن يسافر اليوم على أن يعود بعد أشهر لاستكمال بحثه، على أمل أن يشكّل هذا المقال نداء لمن يعرف أي معلومة لمساعدته في إيجاد أهله الحقيقيين.
قصة ستيفن، تشكل واحداً من فصول مشابهة لقصة واحدة يعاني منها أربعة آلاف لبناني على الأقل، أشارت تقارير صحافية وأمنية أن مافيات استغلت غياب الدولة قبيل الحرب الأهلية وأثناءها، للمتاجرة بالأطفال، حيث كانت تبيع الطفل للعائلة الأجنبية مقابل ألف دولار أميركي كحد أدنى. كما تحدثت المعلومات عن شبكات تضم أطباء وطبيبات وقابلات قانونيات، كانت تتعامل مع جهات خارجية في هذه العمليات، إضافة الى جمعيات كانت تنتحل صفة العناية بالأطفال، فيما كانت غايتها تحقيق الربح المادي عبر بيعهم.
وقد أثيرت قضية بيع الأطفال الى عائلات أجنبية، للمرة الأولى، قبل أكثر من عشر سنوات، عندما بدأ بعض هؤلاء بالقدوم الى لبنان بحثاً عن أهلهم الطبيعيين. وقد أحيلت القضية، في العام 2002، إلى اللجان النيابية لشؤون الخارجية والمغتربين، المرأة والطفل، وحقوق الانسان. واشارت المعلومات يومها الى أن القضية تشمل نحو أربعة الاف طفل موزعين على عواصم أوروبية وأميركية لاتينية وآسيوية، بينهم330 طفلاً في هولندا وحدها، تم تبنيهم من قبل عائلات هولندية اعتباراً من العام 1976، عبر اشخاص وجمعيات لبنانية خاصة في مناطق عدة. وعرض التقرير الذي أحيل على اللجان مشاكل هؤلاء وسعيهم للقاء اهلهم الحقيقيين للحصول على الجنسية اللبنانية. كما تضم معلومات عن إتلاف ملفات تتضمن معلومات عن أسماء أهالي عدد من الأطفال، من دون تحديد الأسباب.



حالة نجاح واحدة

من بين جميع القادمين سُجلت حالة نجاح واحدة عندما تمكّنت فتاة فرنسية، بعد عشر سنوات من البحث المضني، من التعرّف الى والدتها. وفي حالة ثانية، تلقّى الصحافي الهولندي آرثر بلوك الذي قدم إلى لبنان قبل نحو عشر سنوات عارضاً قصته أمام الإعلام، اتصالاً من سيدة قالت فيها إنها والدته، لكن فحوص الحمض النووي أظهرت خطأ مزاعمها.