دراسة شواهد القبور عند الفينيقيين أعطت أفقاً جديداً لهذه الديانة، التي كانت لا تزال غامضة، فاكتشف العلماء إيمان هذا الشعب بالحياة بعد الموت، وبعقاب الأرواح وبالخوف من قوى الشر. هذه المعتقدات لم تكن معروفة سابقاً، إذ يبدو أن الشعب الذي نشر الحرف حول البحر المتوسط اعتاد كتابة نصوصه الدينية على ورق البرديّ للسرعة، ولم يحفر في الصخر إلا شواهد القبور والتعاويذ.
فأتت الرطوبة لتتلف ورق البرديّ، فيما بقيت شواهد القبور شاهداً على دين عمره 3000 سنة، مما يعني أن حضارة الكتابة خلّفت القليل، والقليل جداً، عن تاريخها بلغتها.
«المعتقدات الفينيقية من النصوص والقبور»، هو عنوان المحاضرة التي ألقاها في متحف الجامعة الأميركية البروفسور فيليب شميتز، المتخصص في اللغات القديمة، والمدرس في جامعة ميشيغان الشرقية. وقد تخصص شميتز في اللغة الفينيقية في بلادها الأم وفي مستعمراتها، وعمل في الأعوام الماضية على قراءة شواهد القبور الفينيقية، وحاول من خلال إعادة ترجمتها طرح مبدأ جديد لفهم عمق هذه الديانة، كما درس طقوس الدفن عند الفينيقيين عبر اعتماده المراجع المكتوبة عنها في حضارات العالم القديم من مصريين ويونانيين ولاتين، وشواهد القبور التي عثر عليها في عمليات التنقيب. شميتز اعتذر من الحضور «لكونه أميركياً يحاضر في اللبنانيين عن تاريخ بلادهم»، وقال إنه متيم بهذه الحضارة وبلغتها التي درسها في الجامعة سنين طويلة. وأوضح أن النصوص التاريخية عن الديانة الفينيقية نادرة جداً. «فأول من كتب عنها كان سانخونياتون، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، والذي لم يبق من كتاباته إلا ما اقتبسه عنه فيلون الجبيلي في القرن الأول قبل الميلاد، في كتابه عن تاريخ فينيقيا. وعرف العالم الغربي كتابات فيلون بعدما أتى على ذكرها المؤرخ المسيحي يوسابيوس القيصري». وتجدر الإشارة الى أن يوسابيوس اقتبس كتابات فيلون بهدف واضح وهو «إبراز سوء هذه الديانة، وإبراز أهمية المسيحية بالنسبة إليها. مما يشير الى صعوبة اعتبار الكتابات التاريخية بمثابة مرجع غير متطرف عن الديانة الفينيقية»، لكن، رغم كل هذه الصعوبات، لا يقرأ شميتز في تلك النصوص ثلاثة مكونات أساسية لهذا المعتقد: وهي الضوء والشعلة والنار، كما يتضح أن لهذا الدين تقويماً زمنياً خاصاً به تدخل فيه الطقوس والمراسيم الدينية. ولإبراز بعض من هذه المراسيم والمعتقدات، يعمل العالم الأميركي على ترجمة شواهد القبور وتحليلها، ويشير الى أن نص أحدها (مكتشف في قرطاج) يعطي اسم المدفون «وتقول الكتابة إن من يقرأ الاسم سيعطيك مياهاً لتشربها». ما معناه أن الروح التي تسكن شاهد القبر هذا لن يصيبها مصير الأرواح الضائعة ــــ العطشى. وتلك كانت لعنة تطلق على البشر في حياتهم، ويخافون أن تصيبهم بعد مماتهم. وكان الخوف من الأرواح الشريرة واضحاً في حياة الفينيقيين، إذ كانوا يعتمدون على الرسوم، وخصوصاً العين الحامية، حتى إن ملك صيدا حفر رمز العين على ناووسه لينقذه من قوات الشر بعد الموت. والجدير بالذكر أن هذا المعتقد لا يزال سائداً حتى اليوم عند الشعوب السامية. فالعين ترسم في «يد فاطمة»، أو تصنع بالفخار لتوضع فوق أبواب المنازل. ويقول شميتز إن قراءة وترجمة معظم الكلمات الفينيقية تشبهان الى حد كبير العربية التي تعد الأساس في كل اللغات السامية القديمة. وهكذا فعلى شواهد القبور مثلاً تُرجم حرفا «رح» التي تقرأ «روح»، والتي كانت تقترن بالتعاويذ التي تطاولك في الحياة والموت، الذي كان يعد مرحلة لا النهاية. وكانت الروح تعاقَب في الحياة بعد الموت على أفعالها، وكان هناك تمييز واضح بين الروح والنفس، الذي هو الهواء الذي يتنفسه المرء. وكان الدفن عند الفينيقيين يتبع طريقتين، إما بوضع الجثمان في القبر أو بحرقه ووضع العظام في جرتين مدفنيتين، واحدة للعظام الكبيرة والثانية للصغيرة.
وكانت تقام المآدب أمام القبور، وبعد مشاركة الطعام تكسر الصحون الفخارية وترمى القطع حول القبر. وكانت شعوب الحضارات القديمة تكتب عن طرق الدفن عند الفينيقيين، فالإغريق كتبوا عنها، وكذلك فعل العبرانيون، الذين شتموا في كتاباتهم الديانة الفينيقية، وعدوها غير راقية ودموية. ولأن الفينيقيين كانوا يكتبون على ورق البرديّ ضاعت كتاباتهم ولم يبق ما يخبر عنهم إلا ما كتبه العبرانيون. لذا، بقي البشر يعتقدون لأكثر من قرن بأن ديانة الفينيقيين غريبة ولا جدوى من التعمق بها، فيما أكدت الترجمات الحالية عكس ذلك، لا بل أبرزت أنهم كانوا مؤمنين جداً، وعلى مستوى «لاهوتي» عالٍ.