أحبط مكتب مكافحة المخدرات المركزي عملية بيع 53 كيلوغراماً من مادة الكوكايين الخام في الكسليك. أوقف أربعة مشتبه فيهم أجانب، فأثارت العملية جدلاً كبيراً. انقسمت المواقف حيالها، هناك من يطالب بإخلاء سبيل الموقوفين، استناداً إلى أن «العملية طُبخت بالتنسيق مع جهاز أمني أجنبي لغايات مشبوهة»، بهدف الإيقاع بالموقوف الهولندي لغايات سياسية. تقابل ذلك قناعة راسخة لدى الأمنيين بأن هؤلاء «تجار مخدرات محترفون، ويجدر بالقضاء إنزال أقصى العقوبات بحقهم، حماية للمجتمع منهم».
ففي تموز الماضي، بعثت منظمة الإنتربول بمعلومات إلى مكتب مكافحة المخدرات المركزي في وحدة الشرطة القضائية عن إحدى شبكات الجريمة المنظمة، الضالعة في تهريب المخدرات بين بعض دول أميركا الجنوبية والأوروبية ولبنان. وذكرت المعلومات أن أعضاء الشبكة تمكنوا من إدخال كمية كبيرة من مادة الكوكايين الخام إلى الأراضي اللبنانية، مصدرها أميركا الجنوبية. وأشارت إلى أن أشخاصاً قدِموا من أوروبا إلى لبنان بغية تصريف هذه المخدرات. بدأت الشرطة اللبنانية برصد الأشخاص المذكورين في كتاب الإنتربول، من دون توقيفهم. استمروا في مراقبتهم إلى أن وجد حاملو المخدرات شارياً لبضاعتهم، لقاء نحو مليونين ونصف مليون دولار أميركي، علماً بأن البضاعة تُباع في سوق «المفرّق» بأكثر من خمسة ملايين دولار.
حُدّد موعد التسليم والتسلّم ليل 29 تموز الماضي. تنقّل المهرّبون، يتبعهم الشاري، بين أكثر من منطقة للتمويه. قبل الوصول إلى موقف سيارات في الكسليك. داخل سيارة حمراء يقودها ر. ش، حُمِّلَت كمية الكوكايين. تردد رجال التحرّي في دهم مكان تجمّع المشتبه فيهم، مخافة هروب أحدهم. أعطوا أنفسهم الوقت ظنّاً منهم أن ذلك قد يؤدي إلى كشف المزيد من المتورطين. أثناء ذلك، تنبه سائق السيارة الحمراء إلى وجود رجل أمن مختبئ، فرفع صوته بالصراخ محذراً رفاقه الذين لم يكونوا قريبين منه. ولسوء حظه، لم يتمكن من تشغيل محرّك السيارة، إذ أوقفه رجال التحري قبل ذلك. ضُبط في حوزته 53 كلغ من مادة الكوكايين موضبة داخل حقيبتي سفر، كناية عن «48» مكعباً مستطيل الشكل، الموقوف يدعى (ر. ش. مواليد 1981)، وهو فلسطيني يحمل الجنسية البلغارية. وبنتيجة التحقيقات، أوقف ثلاثة أشخاص آخرين هم: الفلسطيني ا. ش. (مواليد 1962) عمّ الموقوف الأول، والإيرلندي شان ب. (مواليد 1978)، والهولندي روبرت ك. (مواليد 1961)، فيما لم يتمكن رجال الشرطة من توقيف المشتبه فيه اللبناني ن. ن. الذي ترى فيه القوى الأمنية الشريك اللبناني الرئيسي لأفراد العصابة المفترضة.
لكن المسألة لم تنته مع توقيف المشتبه فيهم. على العكس، فتلك كانت بداية القضية. وهنا تتشعّب السيناريوهات لتسلك مسارين. المسار الأوّل يجزم بأن الموقوفين مجرمون دوليون متورطون في تهريب المخدرات حول العالم. يُدعَّم ذلك بالنشرة الجرمية للموقوف الهولندي روبرت ك. إذ فور الإعلان عن العملية في لبنان، تصدّر خبر التوقيف عناوين العديد من الصحف الهولندية في اليوم التالي للعملية. أضف إلى ذلك، وجود كتاب يفوق عدد صفحاته الثلاثمئة يتحدث بالتحديد عن المطلوب الهولندي كأخطر مهرب للسلاح دولياً. هذا في ما يتعلق بالموقوف البارز بين الأجانب، أما المشتبه فيه اللبناني ن. ن. الذي كفّ قاضي التحقيق بيتر جرمانوس بلاغ البحث والتحري الصادر بحقه فور مثوله أمامه، فتؤكد المراجع الأمنية أن شبهات كثيرة تدور حول اتجاره بالمخدرات، لكن من دون صدور أي حكم قضائي بحقه في هذا المجال. ورغم وجود قناعة راسخة لدى الأمنيين بأن هؤلاء تجار مخدرات، يُتوقع أن تحول تفاصيل عملية القبض عليهم دون إدانتهم قضائياً بسهولة. فبحسب مطّلعين على الملف، يكاد ملف التحقيق معهم يكون خالياً من أي دليل يسمح بإدانتهم، باستثناء إفادات الأمنيين الذين شاركوا في العملية، إذ إن هناك ثغراً ونقاط ضعف تشوب ملف التحقيق، يرى المطلعون أنها قد تُستغل بواسطة المحامين لنقض التحقيقات الأولية التي أجرتها القوى الأمنية. فتاريخ المحضر مُسجّل في شهر آذار، فيما جرت العملية في شهر تموز، كما أن السيارة التي ضُبطت فيها المخدرات «تبخّرت» بعد انتهاء العملية، وهو ما تبرره القوى الأمنية بأنه ناتج عن اضطرارها إلى نقل الموقوف من المكان فور توقيفه، لأنه بدأ بالصراخ لإنذار رفاقه، «فتركنا السيارة في المكان، ولمّا عدنا كانت السيارة قد اختفت»، على حد قول مسؤول أمني. أضف إلى ذلك، عدم وجود اتصالات بين المشتبه فيه ر. ش. وباقي المشتبه فيهم. أما السيارة التي شوهدت في مسرح الجريمة، والتي أكّد المحققون أنها سيارة المشتبه فيه ن. ن. فلا يملك الأمنيون رقم لوحتها. والإيرلندي شان ب، لا أدلة تدينه باستثناء أنه سبق أن كان برفقة الهولندي روبرت ك. علماً بأن شان هو جار ن. ن. وسبق أن اشترى منه المنزل الذي يقطن فيه في لبنان.
هذه الثغر تقابلها نقاط ضعف تؤكد فرضية تورط الموقوفين، أو على الأقل تورط ثلاثة منهم. فتلك الثغر لا تخفي ضبط 53 كلغ من مادة الكوكايين الخام، تبين في ما بعد أنها كانت موضبة للتوزيع. وثمة صورة لأحد المشتبه فيهم في «مسرح الجريمة»، إضافة إلى إفادة شاهد عيان يؤكد أنه رأى شخصاً يشبه ن. ن. في موقف السيارات برفقة الهولندي.
نقاط قوة ونقاط ضعف تكتنف الملف فتترك النتيجة مفتوحة أمام احتمالين، فإما الإدانة أو التبرئة. وسط التأرجح الحاصل، يلقي البعض اللوم على المحققين لعدم «تبكيل» الملف كي يكون الضربة القاضية لهؤلاء. لكن مصادر مطلعة تؤكد أن ضيق الوقت المسموح به لإبقاء الموقوف لدى فصيلة قوى الأمن حال دون حسم المسألة. أضف إلى ذلك، أن الموقوفين امتنعوا عن الإدلاء بأي كلمة إلا أمام القاضي. إزاء ذلك، يقف رجال الأمن حائرين. فهم متأكدون أن هؤلاء تجار مخدرات، لكنهم في الوقت نفسه لم يتمكنوا من إنجاز عملية التوقيف بطريقة تنفي الشكوك التي خلفوها وراءهم.
وفي مقابل ما تقدم، يصر المشككون في رواية الأجهزة الأمنية على القول إن العملية ليست سوى حبكة أمنية «مفبركة للإيقاع بالهولندي روبرت ك. نتيجة موقفه السياسي من سلطات بلاده التي تتهمه بالإتجار بالسلاح». ويقول أصحاب هذه الوجهة إن دليلهم على صحة روايتهم هو أن السفارة الهولندية لم تكلّف نفسها عناء السؤال عن مواطنها رغم مرور أكثر من شهرين على توقيفه.
المسألة اليوم أمام القضاء، ووكلاء الدفاع عن الموقوفين ميّزوا طلب رد الدفوع الشكلية، فأُحيل الملف على التمييز، حيث يُنتظر أن يعود إلى قاضي التحقيق في جبل لبنان بعد ردّ الدفوع المقدمة.



من إسرائيل إلى البقاع

بدأ روبرت ك.، المعروف في هولندا بإسم مينك كوك، الإتجار بالمخدرات بعد تركه كلية الحقوق في جامعة أمستردام، وانضمامه إلى أحد الكيبوتزات في إسرائيل، حيث درس العبريّة، وأقام علاقات تجارية استفاد منها في تصدير حبوب الـ «اكستسي» (حبوب النشوة). ولاحقاً، حقق شهرةً واسعة، لكونه أوّل من بدأ تصدير هذه الحبوب من هولندا، بحسب الصحافي الهولندي المختص بالجرائم، ويم فان دي بول. وبعد فترة وجيزة من إقامته في إسرائيل، سافر إلى سهل البقاع في لبنان، حيث اقام شبكة علاقات ودرس سوق الحشيشة. ألقي القبض عليه في عامي 2000 و2006، لتورطه في تجارة السلاح، وبتهمة قتل تاجر حشيش، إلا أنه بُرّئ في العام التالي. «الكثير من الناس ظنّوا أنها مسألة وقت قبل ضبطه»، قال الصحافي الهولندي ساندر كوبرز، مراسل وكالة «آي أن بي» الهولندية، والذي التقى روبرت مرّة.
فيما اعتبر دي بول أن أي إدانة له تتعلّق بالمخدرات ستكون مهمة، لأن التهم الموجهة إليه، حتى الآن، تنحصر بتجارة السلاح. وقال: «يريدون القبض عليه كل الوقت، لكن الصعوبة تكمن دائماً في وجود إثباتات لإدانته».