هل القاضي صاحب سلطة أم هو موظّف بالمعنى الضيّق للكلمة؟ هذا السؤال، بحرفيته، طرحه أحد القضاة المعروفين في محاضرة علنية، قبل نحو سنتين. «تجرّأ» القاضي على طرح السؤال على مسمع جمع من الحقوقيين. لم يطل الأمر بهيئة التفتيش القضائي لتجيبه عن سؤاله، إذ استدعته بعد أيام، لتذكّره بأنه، ككل القضاة، خاضع لقانون الموظفين، وأنه، بسبب محاضرته، بات متهماً بخرق «موجب التحفظ».
هذه الحادثة، غير الوحيدة من نوعها، ليست سوى نموذج لجدلية قديمة ــــ متجددة بين أهل القانون، تدور أساساً حول معنى عبارة «موجب التحفظ» ومدى صوابيتها. وبالمناسبة، لا يوجد نص قانوني صريح يُعرّف هذا الموجب، الذي يعدّ إحدى «القواعد الأساسية لأخلاقيات القضاة» التي وردت في وثيقة، قبل 6 سنوات، صادرة عن مجلس القضاء الأعلى. وبحسب هذه الوثيقة، فإن موجب التحفظ يعني، من جملة ما يعنيه، امتناع القاضي عن كثير من السلوكيات المتاحة لعامة الناس، مثل الامتناع عن المجاهرة بآراء معينة، واجتناب «كل أشكال النضال الديني أو السياسي أو العقائدي». هذه الممنوعات، التي يمكن المسؤولين تفسيرها بطرق «كيدية» أحياناً، يشعر معها كثيرون من القضاة بشيء من «الخنقة». وفي هذا الإطار، يستغرب أحد القضاة «الإصرار على وضع القاضي تحت الرقابة الإدارية الدائمة، بحيث يروّض لاوعيه»، متسائلاً عما إذا كان «موجب التحفظ» هو «موجب قمع»، وما «إذا كانت حرية التعبير، المصونة دستوراً والمقررة دولياً، والتي هي في صلب حق الإنسان الطبيعي، لا تشمل بنعيمها القاضي، فتصبح معه مقيّدة، أو معلقة على شرط الترخيص المسبق».
بالتأكيد، هناك قضاة كثر يرتضون بأن يكونوا كسائر الموظفين الحكوميين، لا حقّ لهم في الكلام أو التعبير، على رغم أنهم أصحاب سلطة قائمة بذاتها، وبشهادة الدستور. بيد أن ثمة قضاة آخرين لهم ما يكفي من «النفس الثوري» لرفض هذا الواقع. أحد هؤلاء يسأل: «كيف يكون القاضي مستقلاً وحراً وشجاعاً ومقداماً، بحسب ما هو مطلوب منه قانوناً، عندما يخشى الكلام في القانون والأدب والاجتماع والثقافة؟ كيف يُخشى عليه من الكلام في هذه المواضيع، فتُراقب أهليته ومدى إدراكه في كل مرّة أراد الكلام فيها، فيما يطلب منه، في الموازاة، ألا يخشى أحداً عندما يصدر أحكامه؟».
ويخلص القضاة المعترضون على ما يسمونه «قمعاً معنوياً»، إلى ضرورة إجراء تعديلات قانونية على النصوص، وإلى إزالة فكرة «البوليس» من النفوس، بحيث يصبح القاضي «متمتعاً بحقه الطبيعي كإنسان». ويستبشر هؤلاء القضاة بوزير العدل شكيب قرطباوي، لافتين إلى كلمة ألقاها الوزير، قبل مدّة، أكّد فيها أن القضاة «ليسوا موظفين بل أصحاب سلطة».لذا، يتمنى هؤلاء أن يعمل قرطباوي لتعميم هذا المعنى، بعدما سُجّل له سعيه الى تعزيز وضعهم المادي.
يُذكر أن المادة 133 من قانون القضاء العدلي تنص على أنه: «تطبق على القضاة أنظمة الموظفين». وبحسب قانون الموظفين، في المادة 15 منه، يحظر على الموظف «أن يلقي أو ينشر، من دون اذن خطي من رئيس إدارته، خطباً أو مقالات أو تصريحات أو مؤلفات في أي شأن كان». كذلك يحظر عليه أن ينضم إلى المنظمات أو النقابات المهنية، أو أن يضرب أو يحرّض غيره على الإضراب.

مكتب إعلامي

قبل أشهر، فوجئ القضاة، والعاملون في الحقل الحقوقي، بنشر الوكالة الوطنية للإعلام بياناً للقاضي داني الزعني يردّ فيه على وسائل إعلامية طاولته في أخبارها. بدا الأمر غير مألوف، إذ ليس مسموحاً للقضاة بالرد عبر وسائل الإعلام. تردّد حينها أنه لو فعل «أي قاض مغمور ما فعله الزعني لكان جلد 100 جلدة معنوية من قبل هيئة التفتيش القضائي»، مشيرين الى أن الزعني «مدعوم» خصوصاً أنه لم يسائله أحد عن تصرفه، علماً أن مسؤولاً قضائياً رفيعاً أكد لـ«الأخبار» أن المسألة لم تنته بعد، فيما ينقل مقربون من الزعني قوله إنه أصدر البيان للدفاع عن سمعته، وذلك «بعدما لم يجد من يدافع عنه باسم الجسم القضائي، الذي هو واحد منه». لكن، حتى لو كان قرر مجلس القضاء الأعلى الدفاع عن القاضي، أو بالحد الأدنى نقل وجهة نظره، فكيف يكون ذلك؟
الجواب: عبر مكتب إعلامي خاص بالسلطة القضائية، يُجمع عدد كبير من القضاة على وجوب إنشائه، على غرار باقي السلطات والمؤسسات والنقابات. أحد هؤلاء يعود بالذاكرة 10 سنوات إلى الوراء، ليقول: «آنذاك طلب مجلس القضاء الأعلى منا تقديم اقتراحات لتحسين المرفق القضائي وتطويره، فكان من جملة ما قُدّم اقتراح للقاضية ماري دنيز المعوشي، التي تشغل اليوم منصب رئيسة هيئة التشريع والاستشارات، ينص على إنشاء مكتب إعلامي للقضاء، بالاتفاق مع نقابة الصحافة ووسائل الإعلام، إضافة إلى وجود ممثلين عن نقابة المحامين ووزارة الإعلام».
وبالاطلاع على تفاصيل اقتراح المعوشي، يتبيّن أن غاية المكتب ليست فقط الدفاع عن القضاة والرد عنهم عبره، بل أن يكون، أيضاً، مصدراً للمعلومات بالنسبة إلى وسائل الإعلام. فمثلاً، عندما تكون أي وسيلة اعلامية في صدد نشر أي أمر يتعلق بشأن قضائي، يتم الاتصال بالمكتب للتأكد من صحة المعلومات المنوي نشرها، بدل اعتماد عبارة «مصدر» في كل كبيرة وصغيرة. وإذا نُشر ما يراه المكتب خلافاً للحقيقة، يقوم عندها بالتصويب والتوضيح من خلال حق الرد.
وزير العدل وعد بدرس الأمر جدياً مع المعنيين، بغية «الخروج بنتيجة تكون لصالح العمل القضائي واستقامته، وصوناً لكرامة القضاة واستقلاليتهم». فيما يعوّل أحد القضاة، ممن عوقبوا سابقاً بسبب خرق «موجب التحفظ»، على قرطباوي الذي «كان يعرف في نقابة المحامين بنقيب الحريات»، في أن يحقق «الحلم بسلطة قضائية تتساوى بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، وبمجتمع يتوحد حول قضاته، الحصن الأخير لرفع كل ظلامة، ولا يرتضي لهم بظلم، ولا يسمح بتشويه سمعة من أصدر حكماً ولم يُعجب البعض، أو من تجرّأ على خرق جدار طائفي فأثار حفيظة البعض الآخر».