كان اللواء جميل السيد، أمس، استثنائياً في كل شيء داخل قصر العدل. حضر هو، بصفته مدّعى عليه، إلى قاعة محكمة المطبوعات في بيروت، فيما غاب وزير العدل الأسبق شارل رزق، وهو المدّعي، في قضية «القدح والذم والتحقير». كان بإمكان السيد عدم الحضور، والاكتفاء بحضور محام وكيل، لكنه أصرّ على المجيء إلى المحكمة ليثبت، على طريقته، أن رزق «سافل ومنحط ولعين» على حد تعبيره. لم يكن لأحد أن يحسد القاضي روكز رزق على جلسته، التي شهدت حضوراً واسعاً لمحامين وإعلاميين ومتابعين. حاول بداية أن يؤجل الجلسة إلى الأسبوع المقبل، بعدما أظهر المحامي أسعد نجم، وكيل المدّعي، رغبة في شمل الادّعاء قناة «المنار» التي أطل عبرها السيد بتاريخ 29/7/2011.
غير أن إصرار السيد، وتراجع نجم عن رغبته، دفع بالقاضي إلى السير بالجلسة. حرص القاضي، من بداية الجلسة حتى نهايتها، على التذكير بعنوان الادّعاء، بغية «عدم الخروج عن المسار».
كان عنوان الجلسة استجوابياً بامتياز. السؤال الأول وجّه إلى السيد: هل وصفت الوزير رزق بالأوصاف المذكورة؟ «نعم، هذا صحيح، قلت عنه انه سافل ومنحط وصاحب أفعال وطاوة». صدرت أصوات ضحك من داخل القاعة، حتى أن مستشارة القاضي لم تستطع أن تخفي البسمة عن وجهها. طبعاً، وكيل الوزير الأسبق شعر بامتعاض، فاحمّر وجهه وراح يتنهد. أردف السيد قائلاً: «لكن هذا جزء مما ورد على لساني، وأرغب الآن بتوضيح التالي. لقد وصفت العمل الذي قام به الوزير رزق من خلال تلك المصطلحات، فهو قد ذهب عام 2007 إلى السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان، وقال له إن القاضي الياس عيد سيفرج عن الضباط الأربعة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولهذا أطلب منكم التسريع بتعيين مدّع عام دولي لنحيل القضية إليه، وإلا نكون محرجين في الاستمرار بتوقيف الضباط. فيا حضرة القاضي، سافل ومنحط ولعين ليست شتائم، بل أوصاف». بدا السيد مصراً على تكرار تلك الأوصاف، التي كانت تتبعها ضحكات داخل القاعة كل مرّة، وأيضاً زيادة في «عبوق» وكيل الوزير الأسبق.
كادت أن تتسرب البسمة إلى وجه القاضي، لولا جهد في لجمها، وذلك عندما قال له السيد: «أنا معروف عني أني لا أتكلم كلاماً بذيئاً». التفت السيد إلى وكيل المدّعي، معرباً عن تمنيه لو كان الوزير رزق حاضراً في الجلسة، مكرراً أن المصطلحات موضوع الادّعاء (ذكرها مجدداً) ليست سوى أوصاف. هنا ما عاد بإمكان المحامي نجم الاحتمال أكثر، فانفعل وتوجه إلى القاضي بالاعتراض على «التهكم والقدح والذم المستمر». لم يسمح له القاضي بمقاطعة الحديث، أو بالخروج عن أصولها، لأن من حق المدّعى عليه أخذ وقته ليقول ما يريد، وأنه سيعطيه حقه بالرد عند يأتي دوره بإنصاف.
عاد الحديث إلى السيد مجدداً. قرر أن يثبت للقاضي أن المصطلحات التي ذكرها هي أوصاف وليست شتائم. «حضرة القاضي، لقد عدت إلى قاموس المحيط للمعلم بطرس البستاني، وفيه أن السافل من سفل، أي نقيض علا، وأن سفل فلان في خلقه وعمله تعني أنه نزل من أعلاه إلى أسفله، وتعني الخساسة أيضاً». هكذا، بدا اللواء محاضراً في أصول اللغة العربية، خاصة عندما قرر تفسير معنيي « منحط ولعين» بحسب القاموس. وللحظة، لولا لباس القضاة والمحامين في القاعة، لأمكن عدّ الجلسة ندوة حول إنجازات «سيبويه» في الصرف والنحو.
«عبقة» المحامي نجم انتهت إلى «انفجار». رفع صوته مهدداً بمغادرة الجلسة، إذا استمر السيد بترديد المصطلحات أو حتى تفسيرها، لأن «تفسيرها أسوأ منها، وهذا استمرار بالقدح في مجلس عام». غضب القاضي من المحامي، وأخبره أن عليه ألّا يعلّمه أصول العمل، وأن من حق المدّعى عليه أن يفسر ما قاله. توجّه القاضي إلى السيد مجدداً، ليسأله ما إذا كان قد اطلع على ما في القاموس قبل المقابلة التلفزيونية، أم أنه قالها قاصداً منها المعنى المتداول بين الناس؟ لم يناور السيد في الرد، إذ قال مباشرة إنه اطلع على القاموس بعد المقابلة، لكن «جاء التفسير بالاتجاه الذي يدعم كلامي». التفت السيد إلى الحاضرين سائلاً القاضي: «إذا أحد ما هنا سرق فماذا نقول عنه، أليس «حرامي»؟ هل يكون هذا قدحاً وذماً؟ كلا لا يمكن». أحد المقربين من القاضي رزق، همس خلال الجلسة أنه يجزم بأن القاضي لم يواجه في حياته شخصاً كالسيد، إذ إن مسألة المصطلحات وتفسيرها بحسب القاموس «لم يسبقه إليها أحد». بعد ذلك، جاء دور المحامي نجم، فبعد سلسلة من الأسئلة والرد عليها، توجّه إلى السيد بالسؤال عما اذا كانت الكلمات التي استعملها سابقاً، والمكررة في الجلسة أيضاً، تعني «الازدراء والتحقير»؟ أجابه السيد قائلاً: «الكلمات تعكس وصفاً للأقوال والأعمال التي يعترف بها وزير العدل الأسبق، خلافا للأصول المهنية والاخلاقية، وهي مجرد وصف لحالات معينة وليست نتيجة أو كلاماً بذيئاً».

«ويكيليكس» في العدلية

ثمة سابقة حصلت أمس في قصور العدل اللبنانية. فوثائق «ويكيليكس» قيل عنها الكثير، بين مؤيد ومعارض، كما وافق بعض الذين طاولتهم على ما أوردته فيما عارض آخرون. بيد أن أياً منها لم تصل إلى المحاكم في لبنان على شكل ادّعاء، باستثناء قضية شارل رزق ـــــ جميل السيد، إذ نقل الثاني ما جاء على لسان الأول في تلك الوثائق الأميركية المهرّبة، ووصفه بما وصفه بناءً عليها، فكان أن ادّعى الأول عليه أمام القضاء بعدما نفى صحة ما ورد فيها.
ما حصل أمس في عدلية بيروت يفتح باب السؤال عمّا إذا كانت مسبحة الادّعاءات «الويكيليكسية» ستكرّ بين الأخصام، والأهم، كيف سيتعاطى القضاء مع هذه الوثائق، وتحديداً لناحية التثبت من دقة ما جاء فيها؟ في هذا الإطار، أوضح مسؤول قضائي لـ«الأخبار» أن دعوى السيد ـــــ رزق تحمل عنوان «القدح والذم والتحقير خارج الوثائق، لكنه مرتبط بما جاء فيها، وبالتالي فإن الأمر أسهل مما لو كانت الدعوة تحمل عنوان الأخبار الكاذبة، فهنا ستقع المشكلة، في ظل صعوبة التثبت من دقة ما جاء في الوثائق الأميركية». وحول ما قام به السيد لناحية تفسير ما قاله، بحسب قاموس اللغة، يلفت المسؤول إلى أن «القضاة عند دراستهم القضايا يلجأون أحياناً إلى القواميس، لكن هذه أول مرّة يفسر أحد أطراف الدعوى ما قاله للقاضي بهذه الطريقة. ربما هذا سيسهل فهم المسألة أكثر، بيد أن الحكم النهائي يبقى بيد القاضي، الذي سيكون عليه، عند صدور الحكم، التطرق إلى ما أورده السيد في الجلسة».



« ويكيليكس» في العدلية

قبل انتهاء جلسة المحاكمة الاستجوابية لدى محكمة المطبوعات، وافق كل من اللواء جميل السيد ووكيل المدّعي شارل رزق، المحامي أسعد نجم، على رفع الجلسة وتحديد موعد 29/2/2012 موعداً للمرافعة وأخذ القضية إلى الحكم. كان لافتاً قول المحامي نجم أنه إذا أخرج الموضوع عن سياق عنوان الادّعاء، وأخذه صوب موضوع وثائق «ويكيليس» مثلاً، فإن سيسجل اعتراضاً على ذلك. يذكر أن المحامي أكرم عازوري كان حاضراً في الجلسة أيضاً، وكيلاً عن اللواء السيد، لكن الأخير تكفل بأن يترافع عن نفسه. وفي إحدى مداخلاته، طغى صوته على أصوات الحاضرين في القاعة، بمن فيهم القاضي، فحاول الأخير التخفيف من اندفاعته، عندها سأل السيد ما إذا كان في جلسة استجواب أم ماذا، فقال له القاضي «نعم هذه جلسة استجواب». عندها، ضحك الجميع في القاعة، باستثناء المحامي وكيل الادّعاء. هكذا بدا السيد كشخص لم يعتد أن يستجوبه أحد، لكن بعد ذلك عاد إلى هدوئه. ومما زاد في «خنقة» المحامي نجم، أن ممثل النيابة الاستئنافية اعترض على سؤال وجهه للسيد، حول ما إذا كان يملك مستندات أخرى غير ما جاء في «ويكيليكس»، فسقط السؤال.