تروي مسرحية لولو للأخوين رحباني التي أُنتجت عام 1974 قصة فتاة اسمها لولو اتهمت ظلماً بجريمة قتل لم ترتكبها. تدان لولو بقتل رجل يدعى يونس فيحُكم عليها بالسجن المؤبد. بعد مرور 15 سنة، يتضح أنها بريئة فيُفرج عنها وتعود إلى قريتها مقررة الانتقام ممن شهدوا ضدّها زوراً. قصة لولو تشبه كثيراً ما حصل مع إدوار بدوي، غير أن الأخير لم يقرر الانتقام بعد.دفع إدوار بدوي (مواليد 1963) ثماني سنوات من عمره في سجن رومية المركزي ثمناً لبراءته.

بقي المجرم – البريء، من دون أي دليل يُذكر، موقوفاً بتهمة ارتكاب جريمة لم يقترفها. اتّهم بارتكاب جريمتي قتل بالاستناد إلى شهادة شاهدين فقط. لم يكن هناك دليل مادي ملموس يُعتد به. ورغم ذلك، بقي قيد التوقيف الاحتياطي طوال هذه السنين. أما المبرر، بحسب وصفه، فهو «أن أعمار المواطنين وكراماتهم هي الأرخص في وطن الأرز».
يتحدث إدوار بمرارة عمّا قاساه من ظلم وتكذيب. يُعبّر عن ثورة تعتمل في داخله، لكنه لا يُخفي خوفه من المجهول ورغبته في البقاء في الظل. هو لا يريد أن يؤذي أحداً، لكن صوت الثأر يطرق رأسه بين حينٍ وآخر. يريد أن يمحو سنين الذل في السجن، لكنه يرفع ساعديه المغطيين بالأوشام ليقول: «تشرّبت السجن في كل جزء من جسمي». يعيش صراعاً داخلياً. يتردد في حسم خياره حيال الطريق الذي سيسلكه في المستقبل: هل يعيش دور الضحية أم يختار التمرّد ليعوّض الأذى الذي لحق به. يراقب عيني محدّثه باستمرار، ويؤكد أن معظم محدثيه يسترقون النظر إلى الأوشام التي تملأ جسده. يحاول إخفاءها من دون أن ينجح، فيبادر بالقول ان «الوشم طريقة يعتمدها السجين لتمرير الوقت». ويضيف: «الشعور بالألم الجسدي لا يعادل الألم النفسي أبداً».
تسأله عن الجريمة التي اتّهم بها. يصمت قليلاً من دون أن يُجيب. ينظر إلى اللامكان قبل أن يهز رأسه هامساً: «صدقيني لم أكن أعرف القتيل حتى». لماذا وهل يعقل وكيف حصل ذلك؟ أسئلة تتزاحم لديك لكنها تبدو في رأس إدوار أكثر ازدحاماً. يُخبر عن تصفية حسابات دفعت بأحدهم إلى إلصاق التهمة به. يسرد تفاصيل ما حصل، لكنه يتحدث بتحفّظ حذر. بداية يمتنع عن الخوض في التفاصيل، لكن الكلمات تغافله وتنزلق على لسانه. الأفكار لا تزال تائهة في رأسه. يكرر مراراً: «أُريد أن أكون وحدي. أريد أن أبدأ من جديد».
يستعيد إدوار مشهدين. الأول وجه رتيب التحقيق الذي استجوبه واسمه. ويذكر أن الصورة الثانية هي لكل من الشاهدين جورج خ. وألفونس ض. اللذين أقعداه بإفادتيهما في السجن طوال السنين الثماني.
بالنسبة إلى الرتيب، يؤكد أنه لن ينساه ما بقي حيّاً. فقد أذاقه مختلف ألوان التعذيب لدفعه الى الاعتراف بجرم لم يرتكبه، لكن عناد إدوار حال دون أن يعطيه ما أراد، رغم أن صراخه ملأ الأرجاء. وفي ما يتعلق بالشاهدين، يستغرب أن يصل الحقد بأحدهم لدرجة سلبه أغلى ما يملك. سنوات عمره وزهرة شبابه. فالشاهد جورج، بحسب متن الحكم، كان قد تعرض لضرب مبرح على يد شقيق إدوار الأمر الذي دفعه إلى الافتراء على الأخير وفبركة رواية القتل انتقاماً منه. لكن الغريب أنه لمّا أصر المتهم حينها على مواجهة الشاهدين، جاء الرد بتعذر إبلاغهما لعدم وجود عنوان واضح.
أُفرج عن إدوار منذ قرابة الشهر لعدم كفاية الدليل. يتحدث السجين السابق عن الدمعة التي ذرفها لحظة سماعه خبر إطلاق سراحه. يؤكد أنها لم تكن تعبيراً عن فرح نيله الحرية، بقدر ما كانت دمعة أسى لمرارة الظلم الذي لحق به. لم تبدر عنه أي ردة فعل، لكنه طلب مقابلة النائب العام التمييزي فحسب. هنا يتحدث عن سخرية القدر. فقد شاءت الصدف أن يكون القاضي نفسه الذي استجوبه في المرة الأولى وأدخله الى سجن التوقيف الاحتياطي، هو القاضي نفسه الذي بات النائب العام التمييزي سعيد ميرزا. قصد مكتبه مصرّاً على مقابلته. أُعطي الإذن ولمّا دخل. سأله ميرزا عن طلبه، فردّ إدوار مستفسراً عمّن يعيد إليه حقّه. أجابه ميرزا : «ظُلمت وكل هذه الدنيا ظالمة»، مضيفاً: «هوّن على نفسك... لست المظلوم الوحيد». حاول ميرزا ملاطفته، مازحه بأن «لديك وساماً يمكنك أن تُفاخر به أمام الجميع. فالقاضي هنري خوري الذي حكم ببراءتك لا يمكن لبعوضة أن تزمط منه»، في إشارة من الرئيس ميرزا إلى مدى تشدّد الخوري المعروف بصرامة أحكامه. لم يضحك إدوار. كرّر سؤاله مجدداً عن حقه المهدور. عندها اقترح عليه الرئيس ميرزا أن يذهب إلى مجلس النواب ليسأل عن كتاب القانون. وهناك يفتحه ليرى ما الإجراءات التي يمكن أن يتبعها رجل ظلم 8 سنوات في السجن. وأكّد ميرزا أنه مستعد لتنفيذها بحرفيتها. وقع الاجابة كان ثقيلاً على إدوار.
يريد إدوار أن يبدأ حياته من جديد، لكنه يشعر بالعجز. لمعة الدموع لا تفارق عينيه، رغم الصلابة التي يوحي بها. يستعيد شريط حياته بمرارة، فينظر إلى سنواته التي ضاعت خلف القضبان. التشاؤم سمة بارزة في كلامه، فأي مستقبل ينتظره بعد ضياع الأسس التي تُقام عليها الحياة السليمة. يؤكد أنه خرج من السجن الصغير ليحتجزه السجن الأكبر. فسجلّه الأبيض أسود في نظر المجتمع. والعرف المتفق عليه بنظر هؤلاء أن السجون لا تخرّج صالحين.
لا يملك إدوار اليوم سوى أن يعيش دور الضحية. يؤكد أنه لا يطالب بأي تعويض معنوي أو مادي. فهو مدرك تماماً أن قضيته لن تكون محط اهتمام المسؤولين، لكنه يعتبر أن التفاتة إليه ومعاملته على أنه إنسان ربما تكفيه. فقصته ليست الوحيدة من نوعها في لبنان، ومقولة «يا ما في الحبس مظاليم» تكاد تصبح شعاراً .
يمر إدوار اليوم بظروف نفسية صعبة، فهو لا يزال يبحث عن عمل يؤمن له قوت يومه. يوجه نداء إلى من يود مساعدته في هذا المضمار. يؤكد أنه لا يريد سوى أن يعيش بكرامة من عرق جبينه. أما بناء العائلة، فبند غير مدرج على سلم أولوياته. يسأل متهكماً إن كان الفرج سيأتي قبل أن ينتهي به المطاف على أرصفة أحد الطرقات مطارداً طيف أملٍ لن يأتي.



قضت محكمة الجنايات في بعبدا برئاسة القاضي هنري خوري بتبرئة المتهم إدوار بدوي من التهم المنسوبة إليه بارتكاب جريمتي قتل كل من بسام حبشي وأندريه معلوف، وذلك بعد مرور ثماني سنوات على توقيفه. وقد استند القاضي في حكمه إلى أن إفادة الشاهدين في القضية تفتقر إلى الدقة والوضوح، وبالتالي فإن قناعة المحكمة بما أسند إلى المتهم لم تتوافر، ما يقتضي إعلان براءته لعدم كفاية الدليل.