لا تزال نبتة الخبيزة مدلّلة في المناطق الجنوبية، وتكاد تكون «العشبة البرية» الوحيدة التي يجب تنظيفها. وإذ لا تحتاج هذه النبتة إلى رعاية خاصة أو إلى الري في مواسم الشّح، لكونها مقاومة بطبيعتها وتتكاثر بالبذور من دون جهد، يصرّ أصحاب الحقول والمزارعون على تقليمها وريها لتبقى نظيفة ونضرة من عام إلى آخر. «تدليل» الجنوبيّين للخبيزة مرتبط بكونها العمود الفقري في طبق «البقلة»، الذي يكثر إعداده في موسمي الشتاء والربيع، مع نمو عناصره الأخرى من النباتات (الخضار) والأعشاب، وهي «الدردار» المعروفة بـ «دريرة البقرة» وسط القرويين، و«البسباس» أو «الشومر»، إضافة إلى «المصَيْرْنِيّة» أو «الصيفي»، وهو نبات شوكي يتمدد فوق سطح التربة.وينظر الجنوبيون إلى صحن البقلة كطبق دسم من حيث تركيبته الغذائية، وخصوصاً أنه يحتوي على العديد من النباتات والخضار الغنية بخواص صحية وفيتامينات ومعادن، فضلاً عن كون إعداده يحتاج أولاً إلى بحث في الحقول عن عناصره التي تعدّ طبيعية بامتياز، لأنها تنمو بفعل الطبيعة والمواسم.
في سهل الميذنة، حيث تتجدد الفلاحة في كل موسم، تحيد السكة عمداً عن حبوب الخبيزة لضمان تكاثرها، حتى تقطف في موسمها وتُباع «ضمماً» في الدكاكين والأسواق مع الشومر والأعشاب الأخرى. نبتةٌ لا يحبها الجنوبيون فقط، بل ينتظرها سكان المدن الذين يعجزون عن إيجادها في أحياء المدينة بسبب المدّ العمراني وغياب الأراضي الزراعية، فيضطرون إلى أن «يسرحوا في الحقول بحثاً عنها»، تقول هدية حمزة، التي شرعت في تنقيح «مسكبة» طبيعية من الخبيزة، تركتها تنمو إلى جانب حقلها في سهل الميذنة، شرقي بلدتها كفررمان.
أمورٌ كثيرة تغيرت في القرى. تؤكد حمزة أن عدداً كبيراً من أبناء البلدة باتوا يشترون لوازم طبق «البقلة» بعدما تخلوا عن الزراعة لمصلحة أعمال أخرى، عدا خشية البعض من التوجه الى الحقول لاحتمال وجود بعض القنابل العنقودية فيها، وخصوصاً بعد عدوان تموز عام 2006. تبيع حمزة «ربطة» الخبيزة بألف أو ألفي ليرة «بحسب كبرها ونوعيتها وجودة ورقها». وحين لا تجد كمية كافية في حقلها، تسرح في البراري القريبة بحثاً عنها، وعن لوازم البقلة التي تختلف أسعارها أيضاً باختلاف حجمها وجودتها. تقودها قدماها أحياناً إلى البراري المحاذية لمجاري المياه (نبع الميذنة ونهري الزهراني وزريقون القريبين من السهل). مثلها يفعل العديد من المزارعين، وخصوصاً قبل نهاية الأسبوع من أجل نقل الخبيزة إلى سوق الاثنين في مدينة النبطية، لتتربع على عرش الخضار الشتوية والربيعية في تلك الزاوية المعروفة باسم مزارعي كفررمان.
تواظب ربة المنزل جميلة سلطان معلم (كفررمان) على إعداد طبق خاص مكون من الأعشاب المميزة هذه. بداية، تقلي شرائح البصل مع الزيت النباتي حتى تنضج، ثم تضيف إليها الخبيزة ودريرة البقرة والشومر وما جمعته من نباتات وأعشاب، بعدما تكون قد غسلتها ونظّفتها وفرمتها قطعاً صغيرة. وبعد قليها مع البصل والزيت، تقول: «أضيف إليها كمية قليلة من المياه، وأتركها على النار حتى تنضج ويغدو لونها بنياً يميل إلى الغامق، بعدها يأتي دور البرغل الخشن الذي يزاد إلى الأعشاب، ويترك حتى يترنخ مع الخليط». يفضل البعض عدم إدخال البرغل إلى الخليط النباتي، بعكس جميلة، التي تضيف الحامض إلى الطبق قبل الأكل. لا يتوقف استخدام أوراق الخبيزة في المناطق الجنوبية على الأطباق البيتية الموصوفة بالبلدية، التي تكاد لا تخلو من بيت من بيوت القرى في مواسم المطر، فتنقع أو تغلى لتستخدم للشرب كمضاد للرشح، والزكام، والتهابات الفم واللثة، وآلام الحنجرة واللوزتين والبلعوم، وأمراض اللثة والأسنان، إضافة إلى السعال.
وفي السياق، يقول عبد الله علي أحمد (كفررمان): «كنا نستخدم منقوع الخبيزة كمضاد حيوي وطبيعي لمعظم الأمراض، عندما لم تكن الأدوية والمضادات الكيميائية والمركّبة منتشرة في القرى على هذا النحو، كما هي اليوم». ترعرع عبد الله في بيت اعتاد «إجراء عمليات تجبير الرضوض والكسور». ويشرح «كان والدي يعرف العديد من الوصفات المتعلقة بمنافع الخبيزة. ولطالما كان يردد أنه إن لم تنفع، فبالتأكيد لن تضرّ، وخصوصاً أنها غنية بالفوائد الغذائية». وكانت وصفات الاستفادة من محلول الخبيزة تشمل التوتر العصبي وبعض الأمراض النسائية والجلدية وأوجاع البطن والمغص ولدغات بعض الحشرات.