بدأت القصة سنة 1927 حينما كان الطيار البريطاني برسي ميتلاند يقوم بعملية نقل للبريد بين القاهرة وبغداد. من طائرته، رأى أشكالاً غريبة في الحقول البركانية السوداء في سوريا وشرق الأردن والمملكة العربية السعودية: حجارة مرصوفة على نحو دائري. نقاط سوداء في صحراء قاحلة وعلى بعد مئات الكيلومترات من المدن الكبرى، وآلاف من الدوائر الحجرية المرئية فقط من الجو، التي يصل قطرها أحياناً إلى سبعين متراً. استغرب ميتلاند هذه الظاهرة، فوثّقها بصور جوية ونشر عنها مقالة. وضاع خبر الاكتشاف، وعاد السر ليلف هذه الأشكال حتى سنة 1970 عندما اكتشف الصور الدكتور دافيد كنيدي. فهذا الأستاذ المحاضر في التاريخ القديم والكلاسيكي في جامعة أستراليا الغربية كان يدرس الصور الفوتوغرافية القديمة عن الأردن حينما عثر على مجموعات الصور الكبيرة. وأطلق في تسعينات القرن الماضي مشروعاً يوثق هذه المواقع الأثرية في الأردن بصور جوية جديدة، مؤكداً أنها مواقع أثرية فريدة من نوعها، وتصعب رؤيتها على مستوى الأرض، إذ إنها لا تُشاهد إلّا من الجو.ويكشف كنسدي في إحدى أكثر الدراسات أهميةً حول الموضوع عن وجود حوالى مليون موقع من هذه الأشكال في نطاق جغرافي يمتد بين سوريا واليمن في الصحراء، تراوح أشكالها وهندستها بين الدائرية واللولبية والمستقيمة. وتتميّز المواقع ذات الأشكال الدائرية بجدران سميكة وتقسيمات داخلية، وتتميز الجدران بأنها صغيرة لا ترتفع عن سطح الأرض أكثر من 50 سم، وتمتد على نحو مستقيم لمسافات قد تصل إلى 5 كلم، كتلك الموجودة بالقرب من مدينة جدّة. ويقول كيندي إن «ضخامة المباني تبرز المجهود المبذول لبنائها»، ويعتقد البدو بأنها من «أعمال القدماء»، فيما يعيدها علماء الآثار إلى فترة تمتد ما بين سنة 9000 ق. م. و2000 ق.م.
يشبه كنيدي هذه المواقع برسوم «نازكا» ذات الشهرة العالمية والموجودة في أميركا الجنوبية، وهي تعود إلى القرن الخامس الميلادي ولا تتعدى المئتي موقع، ولا يتجاوز طولها 270 متراً، فيما تلك المنتشرة في البادية أكبر وأكثر عدداً وأقدم، لكن السؤال هو: لماذا لم تستحوذ حتى الآن على الاهتمام المناسب؟ قد يكون السبب رفض الدول العربية خلال الخمسين سنة الماضية تزويد العلماء بالصور الجوية الضرورية لدراسة هذه المعالم، وعدم السماح لطائرات الاستطلاع والتصوير بالقيام بالمهمة، لكن، بفضل برنامج Google Earth تبدل الواقع وبات كنيدي يعمل على دراساته هذه من مكتبه في أستراليا، ويساعده على محاولة حل هذا اللغز زملاء منتشرون في جامعات عدة، من كوبنهاغن الى واشنطن. وهو قام بمسح ما يعادل 1241 كلم مربعاً بالقرب من جدّة، في منطقة طولها 73 كلم وعرضها 17 كلم. وقد عثر على 3000 موقع في الأردن، و2000 في المملكة العربية السعودية. ويستغرب العلماء وجود هذه الدوائر في حقول الصخور البركانية، وهي منطقة لا تصلح للسكن منذ أقدم العصور.
الدراسات لم تصل بعد الى تفسيرات حول طبيعة هذه المواقع بقدر ما زادت التساؤل عن أسباب بنائها: هل هي مصائد للغزلان التي كان يكثر وجودها في المنطقة في عصور ما قبل التاريخ، وخصوصاً أن الغزلان كانت تمثل المصدر الأساسي للحوم للإنسان في تلك الفترة، أم هي مبان دينية أقيمت لطقوس تكريم الآلهة؟
يؤكد الدكتور غاري رولفسون، البروفسور في قسم الأنتروبولوجيا في معهد وايتمان في واشنطن، أنه اكتشف في الأردن مقابر ومباني طقسية تعود الى فترة ما قبل التاريخ تشبه بشكلها الهندسي تلك الدوائر الحجرية الضخمة. وتنطلق اليوم دراسات أخرى من أجل معرفة الأسباب التي الى تشييد هذه الدوائر الحجرية في الصحراء البركانية، لكنْ هناك مشكلتان أساسيتان تؤخران عمليات فهم هذه المعالم. الأولى هي عدم تمكّن البعثات العلمية من الحصول على صور جوية حديثة لهذه المعالم، تسمح لها بدراستها بتفاصيلها، ومع اختلاف وضع الضوء، والثانية استحالة طرح مقاربات بين هذه المعالم وأخرى مشابهة لها في العالم، لأنها فريدة من نوعها.
لكن كنيدي يعتزم إكمال الدراسة لفترة سنتين على المواقع المكتشفة في المملكة العربية السعودية، وهو يستعين بصور من الأقمار الاصطناعية، وينوي في المرحلة الأولى وضع كاتالوغ للمواقع في محاولة لفهم هذه الظاهرة، التي يصفها بعض العلماء بأنها «بمثابة اكتشاف عالم جديد»، وخصوصاً ان المنطقة أدت دوراً محورياً في تاريخ البشرية في عصور ما قبل التاريخ.