«لا لا ما بدي صورة». يرفض الفلسطيني عصام سعيد أن نلتقط صورة له. الكاميرا واحدة من الأشياء، الكثيرة جداً، التي يخافها. يرفض تصديق أن أحداً ما سيساعده، لأنه «ما حدا لحدا». عبثاً تذهب كل محاولات إقناعه. ما رأيك في عرض قضيتك على الدولة؟ «لا. الدولة ما بتعمل شي. ما حدا بيعمل شي». لماذا لا تجرّب الأمر؟ «كيف بدّي جرّب وأنا شايف، وأنتم شايفين، إنو ما حدا بيعمل شي لحدا».26 عاماً قضاها عصام خلف القضبان، منها 11 عاماً «بلا طعمة» لمجرد أن من يُلقى في السجن في لبنان يصبح نسياً منسياً. دخل عصام، أو «الصنديد» كما لقّبه زملاؤه من نزلاء رومية، السجن يافعاً وخرج منه كهلاً. لم يجد على باب السجن أي جهة تنتظره أو تمدّ له يد العون، أو حتى توصله إلى منزله الذي نسي الطريق إليه. بالنسبة إلى عصام وأمثاله، وفي لبنان حيث لا إعادة تأهيل ودمج في المجتمع، لا يعني الخروج من رومية إلا خروجاً إلى السجن الكبير. قضية عصام، بـ«بساطة»، هي أنه قضى محكوميته في السجن مع «حبّة مسك». و«حبة المسك» هذه هي 11 عاماً من السجن! كان في إمكان الرجل مغادرة رومية قبل 11 عاماً لو أن أحداً ما أجرى له معاملة إدارية بسيطة، هي عبارة عن إجراء قضائي سهل يدعى «إدغام الأحكام». هو، إذاً، «خطأ» كلّفه قضاء أكثر من عقد من الزمن في السجن، وكان يمكن تجنّبه لو أن المعنيين، من قضاة وسواهم، يزورون السجون باستمرار (كما يفرض القانون) ليتفقدوا شؤون أولئك الذين حكموا عليهم بالعيش في الزنازين.
الغريب في قضية اللاجئ الفلسطيني، أن الدولة اللبنانية في عز أيام الحرب الأهلية واختلاط الحابل بالنابل، كانت «صاحية» لاعتقاله عام 1985. أوقف آنذاك للاشتباه فيه بارتكاب جريمة قتل، علماً بأن ظروف إدانته لاحقاً تثير الكثير من الشكوك؛ إذ أدين بجريمتين. ارتكبت الأولى عام 1986 والثانية عام 1991... أي في أثناء وجوده داخل السجن! ليس هذا مزاحاً، بل حقائق تؤكدها المحامية حسنا عبد الرضا التي علمت بقضية عصام من طريق المركز اللبناني لحقوق الإنسان، ممثلاً برئيسه وديع الأسمر، قبل أن توافق على تولّي القضية طوعاً ومن دون مقابل.
توضح عبد الرضا أن موكلها أدين بأحكام مختلفة، صدرت عن أكثر من محكمة، تصل عقوبتها عند جمعها إلى السجن 187 عاماً. هكذا، كان يمكن عصام أن يظل منسياً داخل سجنه، إلى أن يفارق الحياة، لو لم تجر محاميته المتطوعة معاملة إدغام العقوبات، علماً بأن هذا الإجراء يفترض أن يكون متاحاً لجميع السجناء. لم يكن يفترض بـ«الصنديد» البقاء في السجن أكثر من 15 عاماً (لو حصل الإدغام سابقاً) أي «مدّة العقوبة الأشد دون سواها» بحسب نص المادة 205 من قانون العقوبات. يؤكد عصام أن آخر مرة رأى فيها قاضياً كانت في المحكمة عند صدور الأحكام بحقه. وعند ذكره لأسماء بعضهم، يتبيّن أن منهم من فارق الحياة ومنهم من تقاعد... ومنهم من ينتظر. علماً بأن المادة 402 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنص على أنه «يتفقد كل من النائب العام الاستئنافي، أو المالي، وقاضي التحقيق والقاضي المنفرد الجزائي، مرّة واحدة في الشهر، الأشخاص الموجودين في أماكن التوقيف والسجون التابعة لدوائرهم. ولكل من هؤلاء أن يأمر المسؤولين عن أماكن التوقيف والسجن، التابعين لدائرة عمله، بإجراء التدابير التي يقتضيها التحقيق والمحاكمة». إذاً، الزيارة واجبة مرة كل شهر، وإلا «يلاحق القاضي مسلكياً». يضحك أحد القضاة، ساخراً، عند قراءة النص السابق على مسمعه، ويؤكد أن زملاء له، من الذين حددهم القانون، لم يزوروا السجون منذ أكثر من 5 سنوات. برأيه، إن فلسفة هذا النص القانوني تعني أن القضاة، بصفتهم الجهة التي حكمت بحجب الحرية عن السجناء، «هم المكلفون مراقبة كيفية تطبيق الأحكام التي أصدروها، وما إذا كان هناك من ظلم لاحق».
لم يعد لعصام اليوم أي أقارب على قيد الحياة، إلا أخاه، الذي يشاركه منزله في أحد المخيمات الفلسطينية. لم يعتد بعد، وقد لا يعتاد إن ظل بلا رعاية، على نمط حياة غير تلك التي كان يعرفها. يقضي أغلب أوقاته شارد الذهن. لا يبادر بالكلام، وإن كان الحديث يدور حول قضيته. وعند الإصرار عليه بسؤال ما، يجيب بكلمات قليلة، يختتمها غالباً بلازمة «ما حدا لحدا». قضى في سجن رومية 22 عاماً، وقبلها 4 أعوام في سجن بيروت، الذي لم يعد سجناً منذ أمد بعيد. «دايماً كان عندي أمل إنو رح أطلع من السجن»... كلمات يقولها قبل أن يصبّ جام غضبه على السجناء الذين يتعاطون المخدرات! يرفض حتى إيجاد أي عذر لهم في ذلك، لأن «ما حدا جابرهم». برأيه، إن كثيرين من السجناء هم «أروانة» (كلمة تطلق على كل شيء رديء في لغة السجون).
تقول المحامية عبد الرضا، باستهجان، إنها عرفت كل شيء عن موكلها من خلال الأحكام القضائية، إلا أنها لم تستطع أن تفهم منه كيف قضى كل تلك السنين في السجن، أو بالأحرى «كيف يشعر الآن أو بماذا يفكر». قضية موكلها جعلتها تواجه حالات لم تواجهها من قبل. حتى في الإجراءات القضائية، كان بعض العاملين في العدلية يقولون لها: «أوف. عم تحكي عن أحكام من الثمانينيات، من وين جاي حضرتك؟». تشير عبد الرضا إلى كثرة الكلام هذه الأيام عن اكتظاظ السجون، فيما «لو بحث المعنيون في السجون عن أشخاص يمكنهم مغادرة السجن لوجدوا كثراً منهم. يمكن نقابة المحامين، بالتنسيق مع وزارة العدل، أن تخصص طلبات للمحامين الراغبين في البحث عن حالات كهذه داخل السجن، وتدعو من يرغب في التوكل مقابل أتعاب. أو يمكن أن تجرى دراسة شاملة عن عدد السجناء الذين يمكنهم المغادرة، في حال تقديم المعونة، وهذا لا يحتاج إلى تكلفة كبيرة».
من جهته، يرى وديع حداد، رئيس الجمعية التي عملت معها عبد الرضا، أن قضية عصام هي «مثال صارخ على عدم الاستفادة الكافية من الخدمات القضائية، وخصوصاً من جهة الشرائح الأكثر فقراً في لبنان». ويضيف: «إن إطلاق سراح عصام هو مناسبة للتذكير بأن هناك عدداً كبيراً من الأشخاص ما زالوا معتقلين تعسفاً في سجوننا، بحيث يمكن إطلاق سراح المئات منهم، شرط أن يتوافر لهم الدعم المناسب، وخصوصاً المحامين المتطوعين، لكي لا يطويهم النسيان إلى الأبد».



لم يحصر القانون مهمة التقدّم بإجراء إدغام الأحكام بالمحامين، إذ يمكن أياً من أقرباء أو أصدقاء المحكوم عليهم القيام بذلك، لكن جرى العرف بأن يتولى المحامون هذه المهمة، نظراً إلى خبرتهم التي تسهل عليهم الغوص في دهاليز العدليات. طبعاً، إجراء الإدغام، مجاني (باستثناء بعض الرسوم). لكن حتى يستطيع أي كان إتمام معاملته في العدليات، بلا مماطلة، لا بد له من «وضع» 20 أو 30 ألف ليرة في جيب كل موظف قضائي تمر المعاملة عبره، لتسير الأمور بسلاسة. هكذا هو العرف في إنجاز المعاملات في قصور العدل. وهذا ما واجهه من ساعدوا عصام سعيد في إجراء الإدغام قبل خروجه من السجن.