كانت الأنظار تشخص إلى دارة آل الأسعد في الطيبة بسبب ضخامتها وفرادة تصميمها مقارنة بباقي دور العائلات الإقطاعية الجنوبية. لم تحتفظ «كعبة جبل عامل» بمساحة في ذاكرة أبنائه الجماعية، بسبب نفوذ العائلة الإقطاعي والسياسي فحسب، بل كانت طبقاته الاثنتين أيضاً، والقناطر والغرف المتعددة ومنافعها، تراود أحلام «الرعية»، التي كانت بيوتها عبارة عن غرفة صغيرة، والطبيعة ملجأها لقضاء حوائجها. إمكانات «البكوات» سمحت لهم بالاستعانة بمهندسين و»معلّمي عمار» من خارج المنطقة، لتشييد الدار (لم يكن مصطلح القصر منتشراً).
أما الفلاحون، فلهم سواعدهم وخبراتهم بالسليقة، لبناء بيوتهم. مهنة العمّار انتشرت في النصف الثاني من القرن الماضي.
اليوم بات الجميع يبني، الدور والقصور، كما وجد آخرون لأنفسهم خياراً آخر. إلى وادي تفاحتا، لجأ النحات سليمان سليمان. باع منزله الحديث واستبدله بمغارة طبيعية متداخلة مع سفح الجبل، واستحدث لواجهتها جدراناً ونوافذ وأبواباً وأرضية من البلاط، وقسّمه إلى صالون وغرفة نوم ومطبخ ومرحاض ومكتبة. في زوايا محددة، اضطر إلى طلي السقف منعاً للنش والرطوبة. لا يزال يسري في خلد المتخرّج من هنغاريا باختصاص هندسة الكهرباء، بيوت مسقط رأسه، حولا. يرنو إلى استعادة البيت الآمن والدافئ «الذي يتكيف مع الطبيعة ويميل على هواها صيفاً وشتاء». قبالة المغارة، شيّد كوخين دائريين من الطين وقسّم داخلهما بالخشب.

تناقض بين من يجرف بيت أجداده الحجري ومن يبكي على أطلاله
ثم شيد منزلاً من طبقتين، مستخدماً الخشب والتراب والطين، وإن عبّر عن استحالة تقليد بيوت الأجداد بعدما اندثرت مواد البناء القديمة.
اعتمد الأهالي سابقاً على تصميمين ثابتين للبيوت: «الكَلّين» الذي يقوم على بانيتين (الجدار يتألف من طبقتين، خارجية ترصف من الحجر الصخري المشغول، وداخلية من الحجر الأعمى غير المشغول. في البراري، كانت تقص حجارة الدبش من المقالع وينقلونها على الدواب. أما «المصفّط» فيقوم على الجدار المؤلف من واجهة خارجية من الحجر، ومحشوة من الداخل بالحجارة والطين. البيت البيضاوي كان الأكثر انتشاراً. السطح المصبوب من الطين الممزوج بالكلس والتبن، كان يحدل بعد كل شتاء ليظل متماسكاً ويمنع تسرّب المياه. المعيار الأهم ضبط حرارة البيت، عزل البرد شتاء، والتهوية صيفاً. العمارة التراثية القديمة كانت صديقة للبيئة. حافظ الأجداد على الموارد الطبيعية ووفروا الطاقة بالجدران السميكة التي تعزل الحرارة.
سليمان قلّد منزل الطفولة في قاعة ملحقة بالمغارة. الجدار المطلي بالطين مقسم إلى «كواير» ومحمل تحفظ فيها المونة والأغراض، لكن كيف كانت تضبط المقاييس في ظل عدم وجود بنّائين متخصصين؟ «لم يكن هناك شيء اسمه متر (آلة القياس في ورش البناء)». كان الاعتماد على الجسد: كف اليد وطول الأصابع و«فشخة» الرِجل والذارع وعرض الجسم وطول القامة. الشملة (قطعة قماش طويل تلف حول الخصر) كانت كافية لقياس المساحة التي سيشيّد البيت فوقها. هذا البيت هو غرفة واحدة مربعة. الشرفة كانت «مصطبة» صغيرة أمام مدخل البيت، حيث يجلس ساكنوه وزوارهم. في زاوية من الغرفة تجمع الأغراض والفرش، وفي زاوية أخرى تُمد «الطرّاحات» ومساند الظهر التي تستخدم للجلوس والنوم. أما المرحاض، فملؤه زاوية من «الحاكورة»، بجانب البيت، جُهزت لها حفرة. لم يكن هناك «بيت شرعي». حالياً ينتشر المصطلح كثيراً. ترتكز التصاميم الداخلية على فصل غرفة استقبال الضيوف عن الجزء الخاص في البيت، وخصوصاً إذا كانت نساؤه يرتدين الحجاب، أو يفضلن عدم الاختلاط مع الضيوف من الرجال. في السابق، لم يتنبه أجدادنا لذلك. أما عندما يكبر الأبناء الذكور حتى سن الزواج، فكان الآباء المقتدرون القليلون يزيدون غرفة ملاصقة للبيت.

العمارة القديمة كانت صديقة للبيئة تحافظ على الموارد الطبيعية
ومن لم تسمح له إمكاناته، كانت «الخشة» هي الحل المؤقت بانتظار الفرج. بجوار البيت، كانت تخصص غرفة أصغر للدواب والبقرات وحفظ العلف والتبن. كانت تجهز وتفرش للعرسان.
عندما بدأ الجنوبيون بالهجرة أو النزوح إلى بيروت بقصد العمل، اكتشفوا أساليب العمران الحديثة. على نحو تدريجي، أخذ الباطون يهجم. الاحتلال الإسرائيلي أخّر التبدل العمراني، لكن القصف سرّع لاحقاً في جرف البيوت الحجرية. حالياً، لم يبق من بيوت الأصل الكثير. معظمها استغنى ورثتها عنها وتماشوا مع «الباطون». البيوت التي صمدت في حاضرة جبل عامل، في الطيبة والعديسة ومركبا وحولا ودير سريان وطلوسة وبني حيان...، طاولها التعديل. نجد مثلاً أن طبقات بنيت من الإسمنت ارتفعت فوق البيت الأساس، فيما تطفل الطلاء على جدرانها الحجرية حتى طمس تجاعيدها ونتوءاتها. في الطيبة وجاراتها، ارتفعت «قصور» أضخم وأفخم من «دارة الطيبة» الشهيرة، لكن من دون طابع أو هوية.
يتوقف المهندس المعماري علي وهبي عند التناقض الواقع في البلدات، بين من يجرف بيت أجداده الحجري، ومن يبكي على أطلاله، ويستخدم الحجر الرملي في «تلبيس» الجدران الخارجية محاكاة للتراث. وهبي نشأ في صيدا، حيث دُهست البيوت التراثية تحت الأبنية أو هجّرت. عدلون (ساحل الزهراني)، مسقط رأسه، تعيش أزمة هوية أكثر حدة. «الباطون» أكل السهول الخضراء. فيلات وقصور وشقق سكنية. الوحدة العائلية المحصورة بغرفة واحدة، تلاشت. بات لكل فرد غرفة خاصة أو غرفة للإناث وغرفة للذكور، فرضت الخصوصية والاستقلالية، لكن وهبي يتوقع أن بيوت الباطون لن تصمد أكثر من مئة عام بعد تشييدها «بعد 80 عاماً يصبح بيت الباطون خطراً» وفق ما بيّنته نتائج دراسة أجراها.