علَمُ «لبنان الكبير» المثبَّت فوق أعلى نقطة في قلعة «الشّقيف» التاريخية ما كان له أن يرتفع لولا تضحيات مُقاومين قاتلوا الاحتلال تحت أسماء وأعلام مختلفة على مدى عقودٍ ثلاثة. «إشارات المرور» داخل القلعة تشير إلى خريطة الطريق صعوداً ونزولاً و»دراج فوق دراج» حتى العودة إلى «نقطة البداية». القلعة التي «هرَّب» الاحتلال ما تبقّى من جنوده بالقرب منها عبر طائرة مروحيّة يوم تحريرها، في 23 أيار 2000، وعاد ليقصفها بعد ستّ سنوات في حرب تمّوز، تبدو المكان الوحيد الذي يمكن من خلاله رؤية أكبر مساحة ممكنة للجنوب بشكل «بانورامي» من جبل الشيخ إلى جبل الريحان ومرتفعات «إقليم التفاح» إلى أجزاء واسعة من قرى النبطية ومرجعيون، وصولاً إلى آخر نقطة عند مرمى البصر في أقصى الجنوب الغربي.
من القلعة أيضاً، تظهر الأراضي الفلسطينية المحتلّة على مرمى حجَر. «يوماً ما سنكون هناك». يشير الرجل الخمسينيّ إلى «البيوت المطرّزة» بطريقة لافتة في مستعمرة «المطلّة» الإسرائيلية قبالة كفركِلا. الرّجُل، وهو قيادي في المقاومة أشرَفَ على تحرير بلدته «العديسة» وقرى أخرى مجاورة، لا يتردّد في استعادة اللحظات الأولى للتحرير. «كانت المستويات العليا في المقاومة على عِلم قبل أسبوعين أن الأمور ذاهبة باتجاه إعادة تموضع عسكري إسرائيلي في الحد الأدنى». يقول الرجل إن الأوامر بدخول المنطقة الحدودية من محاور عدة كانت قد أُعطيت لنا قبل ثلاثة أيام من بدء عملية الانسحاب الإسرائيلي. «لم يصدّق شبابنا الموضوع أوّل الأمر». يروي الرجل: «بعد الدخول إلى حولا ومركبا التي شهدتُ على تحريرهما، اتجهتُ ومجموعة صغيرة نحو العديسة، فقامت مدفعية الاحتلال في «مشروع الطيبة» باستهدافنا فعدنا الى مركبا فربّ تلاتين ومن ثم إلى العديسة. كنّا فقط أربعة أخوان في البداية، وقمنا بتوجيه نداء للعملاء لتسليم أنفسهم عبر مكبّرات الصوت في مسجد العديسة». صورة النسوة من أهل بلدته اللواتي عانقن شباب المقاومة بحركة عفوية لا تغادر مكانها في الذاكرة. «يومها بكوا وبكينا كثيراً، ولم يصدّق الناس الموجودون في الداخل حقيقة الأمر». يقول: «كنا ما زلنا محاصرين، ولم تكن البلدة قد تحرّرت فعلياً عندما أطلّيت مباشرة من هناك على شاشة تلفزيون «المستقبل» الذي كان سبّاقاً في تغطية الحدث في تلك المنطقة». يضيف القيادي في المقاومة: «لاحقاً دخلتْ البلدة مجموعة أخرى من المقاومة، فيما كان عدد العملاء الذين سلّموا أنفسهم إلى ازدياد.

للمدنيين دور أساسي
في تعجيل عملية التحرير في
كثير من القرى

في ما بعد قام الشباب بالتعاون مع الأهالي بفتح الطريق لجهة الطيبة التي كانت مقفلة بالسواتر الترابية، ويومها سقط شهيد وعدد من الجرحى». لا ينسى الرجل المقاوم مشهد الناس الوافدين من الطيبة ورُب تلاتين باتجاه العديسة ولحظة التقائهم بأهلهم في داخل البلدة. «للمدنيين دور أساسي في تعجيل عملية التحرير في كثير من القرى». يقول الرجل إنه، منذ التحرير، اتّخذ «قراراً كبيراً» بالبقاء والعيش في بلدته الواقعة مباشرة على الحدود مع فلسطين المحتلّة. «لا سِنّ قانونية في عمل المقاومة طالما نمتلك القدرة على القيام بمهمّاتنا»، ينهي القياديّ المقاوِم حديثه.
في القلعة الصليبيّة التي لم تنته بعد عملية إعادة ترميمها، يقول «الدليل» المُرافق لقافلة السُيّاح «الأجانب» إن معظم هؤلاء من دول «الـ5+1». العبارة التي لا تخلو من مُزاح تشيرُ إلى أنَّ الرّجل متابع لشؤون السياسة الدوليّة أيضاً. مِن «فوق» تبدو السيّارات العابرة على طريق «الخردلي» أجساماً ضئيلة متحرِّكة بالاتجاهين من وإلى «الشّريط» السابق. للطريق حكايات طويلة كتبها مقاومون كان الاستشهاديّ هيثم دبوق واحداً منهم. تستريح «دير ميماس» الجميلة كفتاة غفت في قيلولة الظهيرة، فيما تشيّع «أرنون»،على الجهة الأخرى، شهيداً سقط في «القلمون» السُّورية. ولِأرنون سبق الفضل في التحرير المبكّر شتاء عام 1999 بسواعد شباب جامعيين جاؤوا من مناطق لبنانية عديدة. تعلو الموسيقى في «المنتجع السياحيّ» القريب من القلعة. يتحضّر «فريق العمل» لعُرس المساء، فيما يشكو بعض الزبائن من «سُوء الخدمة». يقولون باستياء: «لولا التحرير لما كان هذا المشروع السياحي ليكون هنا». ومثله مشاريع استثمارية كبرى في القرى الحدودية لم تكن لتبصر النور لولا دماء كثيرة سقطت في الطريق إلى عام ألفين. على عادة الأطفال، يبتسم عليّ المولود في العام الخامس عشر لـ»التحرير» من دون أن يعرف لماذا. لكنّ عليّاً هذا، سيجد يوماً «أرضاً لرأس طليق ويدَيْن حرَّتين»!