تقترن ذكرى «التحرير» في بنت جبيل بشهيدها القائد الميداني خالد بزي، «الحاج قاسم»، الذي نشأ في بيت مقاوم هجّر منه أهله في بنت جبيل منذ الاجتياح الاسرائيلي الأول عام 1978، ومن ثم عام 1985. انضمّ الى صفوف المقاومة، وهو في السادسة عشرة من عمره، وتدرّج، بسرعة، بين صفوفها، فتبوّأ مناصب قيادية ميدانية، حتى «كادت معظم عمليات المقاومة الاسلامية، ما قبل التحرير، لا تخلو من بصماته في التخطيط والتنفيذ والإشراف» يقول عارفوه.
15 عاماً من القتال والجهاد، في مواقع برعشيت وحداثا ورشاف والقنطرة وحولا، جعلته يضع بصمته على أكثر من عملية نوعية من بينها العملية التي تم تنفيذها في 16 شباط 1992، على طريق عام بلدة حولا (مرجعيون)، والتي طاولت موكب قائد المنطقة الشمالية آنذاك اسحق مردخاي والعميل عقل هاشم المؤلف من 33 سيارة وآلية، والتي اعتبرت من أبرز العمليات الأمنية وأكثرها جرأة. وكذلك استهداف «إيلي عميتاي» قرب موقع العباد، قبل عدوان نيسان 1996. وقد قال عنه المحلل العسكري الإسرائيلي آلون بن ديفيد: «إننا نواجه خصماً ليس شجاعاً فحسب، بل يتمتع بمستوى عالٍ من التخطيط والأداء».
كما شارك بزي في عشرات العمليات النوعية والتي أدت الى تصفية رموز العملاء، حتى تطور دوره المقاوم، فبات يقصد الشريط المحتلّ، سابقاً، ينام لأيام طويلة في بنت جبيل ومارون وغيرها، إلى حين التحرير، حتى أنه كان يزور منزل أهله وينام فيه أحياناً.
في 21 أيار 2000 دخل مع المقاومين الى بلدتي حولا ومركبا، ثم توجه سريعاً نحو بنت جبيل، من جهة «بيت ياحون»، وكان على رأس قوة ميدانية من أكثر من 200 شاب مقاوم، باتوا ليلتهم في بيت ياحون. في الرابعة فجراً، نهض خالد ورفاقه، صلّوا صلاة الفجر، وقرّروا الدخول، لكن أحد القياديين اختار الاتصال بأحد أبناء بنت جبيل المقيمين فيها، والمتعاونين مع المقاومة، استعانوا به للاستطلاع عن حالة العدوّ وعملائه وعديدهم وعدتهم.
رفض بزي في بداية الأمر تعريض هذا المواطن للخطر، خصوصاً أن المطلوب منه هو التوجه إلى المستشفى العسكري وثكنة الـ«17» الاسرائيلية، التي لم يدخلها لبناني، حتى من عملاء اسرائيل، منذ عام 1978. ثم جرى الاتفاق على أن يخرج المواطن بثياب نومه الى المستشفى بداعي المرض، ففتح هاتفه الخلوي وبقي على تواصل مع الحاج خالد ورفاقه. يقول رفيق درب بزي: «كانت المستشفى شبه خالية وكذلك محيطها. التقى بممرضتين وتحدث اليهما لكنه لم يحصل على اجابة شافية». هنا كانت المجازفة الثانية، «طلبنا اليه التوجه سيراً على الأقدام الى داخل الثكنة. تقدّم بهدوء، فتح الباب الحديدي، شاهد دبابات وآليات عسكرية، طلب منه الحاج خالد التقدم باتجاه المبنى المؤلف من ثلاث طبقات والدخول اليه، ففعل. ثم دخل تباعاً الى كل غرف المبنى، صرخ عالياً، فلم يجبه أحد، عندها تنفّس الصعداء، كانوا قد هربوا على عجل من دون أن يطفئوا أجهزة الكمبيوتر أو يأكلوا طعامهم الذي بدا ساخناً. صعد الى سطح المبنى، لوّح في يديه، معتقداً أن شباب المقاومة يشاهدونه عن بعد، وقال عبر الهاتف، أدخلوا بنت جبيل باتت آمنة». عندها طلب الحاج خالد من المقاومين التقدم بسرعة والسيطرة على مواقع الاحتلال وعملائه، ليتبعهم الأهالي الذين كانوا قد تجمعوا في سياراتهم أمام معبر «بيت باحون». اتخذ الحاج قاسم شعاراً طلب من الشباب اعتماده، «التحرير رحمة وليس نقمة على الأهالي»، لذلك أراد أن يتعاون مع المقيمين وطمأنتهم، في وقت على تطهير المنطقة من العملاء الأمنيين من أصحاب السوابق في القهر والظلم.
ست سنوات أمضاها الحاج قاسم بعد التحرير، متفرّغاً للعمل العسكري والعمل الاجتماعي بغية خلق جيل شاب مقاوم لمواجهة مخاطر المرحلة المقبلة، فترك بصماته في كل قرى وبلدات المنطقة، الذين باتوا يعلقون صوره في منازلهم وأحيائهم، حتى أن أهالي بلدة قبريخا بنوا له ضريحاً رمزياً في قريتهم، تكريماً وحباً له.
قبل حرب تموز 2006 كان له الدور البارز في عملية المقاومة الإسلامية في بلدة «الغجر»، ومن ثم قاد عملية «خلّة وردة» في عيتا الشعب، تابع كل تفاصيلها الميدانية، وعاد مسرعاً الى بنت جبيل، رغم أن قيادة المقاومة طلبت منه الخروج من بنت جبيل، حماية له. اتصل بأحد القياديين في المقاومة قائلاً له: «قل لصاحبنا الأمانة وصلت»، ويقصد هنا السيد نصرالله والأسيرين الاسرائيليين. اتخذ حزب الله تدابير أمنية لحمايته، لأن «العدو يجب أن لا يعرف بوجوده في بنت جبيل، فهو هدف رئيسي له منذ عام 1992». عند وصوله الى بنت جبيل، قرّر زيارة والدته، نام ليلته الأولى في حضنها، ودعها صباحاً، وخرج سراً من نافذة المنزل، كما قالت والدته، ليدير غرفة العمليات في بنت جبيل ومارون الرّاس، وأطلق نداءه الأخير الى المقاومين «لا تتركوا العدوّ يستقرّ في أي منزل أو حي ولو لليلة واحدة» قبل أن يسقط شهيداً مع الشهيدين كفاح شرارة ومحمد أبو طعام، نتيجة القصف الاسرائيلي المركّز على أحياء بنت جبيل القديمة.