يروي جورج عسيلي، مالك المتحف والخبير في مجال الحرير، أنه حين قرر شراء خان الحرير في بسوس المقفل منذ عام 1945، كان هدفه ترميمه وجعله منزلاً سكنياً للعائلة. غير أن شغفه بعالم الحرير وتأثره بعد زيارته عدداً من متاحف الحرير العالمية، دفعاه إلى تغيير مشروعه وتأسيس المتحف في المكان. يخبر عسيلي أن كثيرين من المقرّبين منه اعتقدوا أن المتحف لن يصمد طويلاً لما يتطلبه من جهد وعناية دائمين، لكن المتحف أثبت عاماً بعد عام قدرته على البقاء والتطور.
بين زوايا المتحف، تنتشر آلات الحياكة والغزل التي تعود إلى القرن التاسع عشر، بعضها محلي وبعضها الآخر استقدم من مدينة ليون الفرنسية، فيما علّقت على جدران المتحف لوحات الحرير الساحرة التي يرجع بعضها للعهد العثماني، كما توجد مقاعد وأسرّة أثرية مغطاة بالحرير الناعم. بيد أن قوة المتحف تكمن في توفيره عرضاً حياً لمراحل تطور دودة القز التي تنتج الحرير ونموها، بعد تربيتها داخل المتحف. كما ينظم متحف بسوس في كل عام معرضاً يتناول منتوجات الحرير في دولة معينة. ويستضيف هذه السنة مثلاً معرض متحف الحرير الإيطالي، وذلك بالتعاون مع نساجين إيطاليين، بعدما استضاف في السنوات السابقة الحرير السوري والفلسطيني والصيني والهندي.
ليس الترتيب الفائق، أو الشكل الهندسي الجميل أو حتى قطع الحرير النادرة، هي ما يميز متحف الحرير في بسوس فقط. ثمة إصرار لدى القيّمين عليه أن يتكامل الشكل مع المحتوى، ما يفسر وجود هذا الكم الكبير من المعلومات والمخطوطات والصور والفيديوات التي تتعلق بالحرير اللبناني «هدفنا أن يخرج الزائر من المتحف مبهوراً بالشكل الخارجي وقطع الحرير، ومستفيداً من المعلومات التي نقدمها في آن واحد»، يقول عسيلي. ويضيف «بسبب صعوبة العودة إلى الإنتاج، بات همنا الرئيسي تعريف الأجيال الصاعدة بأهمية الحرير في المجتمع اللبناني قديماً»، ذاكراً أن تاريخ وجود الحرير في لبنان يعود إلى أيام الفينيقيين قبل 2500 سنة، ثم طور الأمير فخر الدين الثاني زراعة التوت من أجل تشجيع الإنتاج حتى بات أهالي جبل لبنان يحيكون الحرير داخل منازلهم. غير أن الانطلاقة الفعلية لصناع الحرير كانت عام 1840. وقتها قدم غزالون فرنسيون من مدينة ليون إلى جبل لبنان بعدما قضى فيروس على موسم الحرير في بلادهم. فأنشأوا معاملهم في بلدة بتاتر، ومع نجاح تجربتهم حذا اللبنانيون حذوهم فكرّت سبحة معامل الحرير ليصل عددها إلى 175 معملاً.
كان لصناعة الحرير أثر اقتصادي ضخم على جبل لبنان، إذ كانت توفر 50% من الناتج المحلي وتم توسيع مرفأ بيروت ليكون قادراً على مواكبة تصدير الكميات الكبيرة من الحرير إلى العديد من الدول. وبحسب عسيلي، أحدثت صناعة الحرير ثورة اجتماعية في جبل لبنان مع خروج الفتيات إلى العمل في المعامل لأول مرة، في كسر واضح لحواجز المجتمع المحافظ آنذاك، كما ساعد وجود الغزالين الفرنسيين والآباء اليسوعيين في افتتاح الجامعة اليسوعية التي هي فرع لجامعة ليون الفرنسية، لكن هذه المعامل أقفلت بعد ثورة الحرير الصناعي التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية فضعف إنتاج الحرير الطبيعي بشكل كبير.
حالياً، بات متحف بسوس الذي يفتح أبوابه بين شهري أيار وتشرين الأول مقصداً للعديد من الزوار والمهتمين، ولا سيما المدارس التي تأتي بطلابها ليتعرفوا إلى عالم الحرير عن كثب.

الانطلاقة الفعلية لصناعة الحرير كانت عام 1840 مع إنشاء معامل فرنسية

فما إن يدخل الزوار المتحف حتى يشاهدوا عبر شاشة ضخمة فيلماً قصيراً عن تاريخ الحرير في لبنان، ليقوموا بعد ذلك يجولة داخل أرجاء المتحف بمساعدة مرشدين مختصين. في هذا السياق، تعبر الزائرة جوزفين عن إعجابها الشديد بالمتحف قائلة «عن جد الحكي مش متل الشوفة، المتحف كتير حلو ومفيد». فيما تعلو وجه الفتى جان ابتسامة كبيرة، بعدما عثر على اسم جده في اللوحة المعلقة على مدخل المتحف، والتي تؤرخ لأسماء معامل الحرير ومالكيها، يقول جان ببراءة «يا ريت يرجع يصير عنا معمل حرير».
بيدو جورج عسيلي فخوراً بما أنجزه، فقلّة الدعم والاهتمام من الدولة يقابلها تشجيع وحماسة من قبل الزوار الذين يفوق عددهم 15 ألف زائر في السنة الواحدة. ونظراً لكون الأسعار تشجيعية، تفوق التكاليف في بعض السنوات العائدات، بحسب عسيلي الذي يجزم قائلاً «حتماً باقون ومستمرون في هذا العمل». تجدر الإشارة إلى أن متحف الحرير في بسوس هو متحف بيئي أيضاً، إذ يوجد على مدخله ما يعرف بحانوت النبات، تباع فيه أنواع مختلفة من النباتات العطرية كالياسمين وإكليل الجبل والخزامى وغيرها... كما تعمّد مهندسو المتحف أن يمر الزوار وسط حقول الزيتون والحدائق المزينة للوصول إلى مبنى المتحف، بالإضافة إلى ذلك يؤمن المتحف دروساً تطبيقية في الزراعة تحت إشراف اختصاصيين في علم الزراعة.
يقول المثل العاميّ «ما تنام عحرير»، لكن هنا في متحف بسوس، ومع رؤية الأسرّة والمقاعد المغطاة بالحرير الناعم، طبعاً سيحلو للزوار النوم على الحرير.